هُولْدِرلِن عن دار التَّكوين والتَّرجمة والتَّقديم لأمارجي
صدرت حديثاً عن دار التَّكوين في دمشق مجموعةٌ من قصائد شاعر ألمانيا الكبير فريدريش هولدرلِن، اختارَها وترجمَها (عن الإيطاليَّة) وقدَّمَ لها الشَّاعر السُّوري أمارجي، ووقعتْ في 152 صفحة من القطع المتوسِّط. وينتمي هولدرلِن إلى الحركة الكلاسيكيَّة الرومانسيَّة التي وضع أسسها يوهان غوته وفريدريش شيلر. ولقد كان الفيلسوف مارتن هيدغر من أكبر المتحمِّسين لقصيدة هولدرلِن، حيث اختارَها في كتابه "إنشاد المنادَى" نموذجاً ليبيِّن جوهرَ الشِّعر، وهو يبرِّر اختياره لها من بين أعمالٍ كثيرةٍ لآخرين بأنَّ المتن الشِّعريَّ عند هولدرلِن هو بالضَّبط ذلك التَّصميم الشِّعري الذي يقوم على نظم جوهر الشِّعر نفسِه في قصيدة، فهولدرلِن بالنِّسبة إلى هايدغر هو "شاعرُ الشَّاعر" وهذا ما أجبره على اختياره هو.
في مقدِّمته للكتاب، والتي حملت عنواناً "مُطارحة المنادَى في ليلِ هولدرلِن وبرقِه"، يُعِدُّ أمارجي القارئَ إعداداً طقسيَّاً للولوجِ في تحوُّلات القصيدة الهولدرلينيَّة، فهو يرى أنَّ على القارئ أن يتجهَّز بتخلِياتٍ وترحاباتٍ أكبر، وأن يتذاوبَ مع "ما فوق اللغة" حيالَ لغةِ هولدرلِن الشِّعريَّة الفائقة، وأن ينفتحَ بالشِّعريِّ على الشِّعري، (فهكذا فقط، تصير الذَّات [الذَّات التُّرابيَّة القارئة] الكنفَ القابلَ لحلول الإلهيِّ، لمَقْدَمِ "الموكب" الذي هو "القران" وهو "البدءُ العظيم" على حدِّ قولِ هيدغر. هكذا، تكون هُيِّئتْ للمقاربة المقدَّسة، بما هي ندُّ [الذَّات السَّماويَّة الشَّاعرة] ومُعادِلُها).
إنَّ التيمة المهيمنة على نصوص هولدرلِن هي تلك المحاولة المحمومة لعقد ذلك القران بين الإلهي والبشري، السَّماوي والأرضي، أمَّا مدلولا الجمال والطَّبيعة في شِعرِه فليسا، على حدِّ قول أمارجي، إلَّا الخلفيَّة اللازمة لانعقاد ذلك القران؛ وفي ذلك كتبَ هولدرلن قائلاً: "إنَّ الإنسان والإله، من أجل ألَّا يُصابَ العالم بالنُّقصان، عليهما أن يظلَّا على اتصال". هكذا، وسعياً منه وراء ذلك العالم المثالي، أو "المثال الأعلى" (Das Ideal)، الذي لم يتحقَّق على الأرض إلَّا مرَّةً واحدة عِبرَ التَّاريخ البشريِّ، وذلك على أرض اليونان البائدة، دفع هولدرلِن عقلَه ثمناً، ولكنَّه كما يبدو كان مستعدَّاً تماماً لذلك، فلقد قال هو نفسُه: "من شاء أن يتنبأ بالأشياء الإلهيَّة، عليه أن يؤمن بها بقداسة، وأن يقدِّم نفسَه كلَّها افتداءً لها".
وعن ليلِ الهلوساتِ والجنون الذي عاش هولدرلِن لأكثر من ثلاثين عاماً في ظلالِه، يطرح أمارجي سؤالاً جدليَّاً يبدو إلماحاً إلى زوال الحدود بين الشَّاعر والجنون- يقول: (هل هو هولدرلِن المختطَفُ إلى ليلِ الجنون، أم أنَّه ليلُ الجنون المختطَفُ إلى هولدرلِن؟ لا نعرف، وأبداً لن نعرف، وجلُّ ما نزعمُ أنَّنا نعرف: أنَّ هذا الليل هو ليلُ هولدرلِن، ليلُه لوحدِه، الذي عتمتُه إعادةُ كتابةٍ لأنطلوجيا النُّور، خُرماً خُرماً، وطبقةً طبقة. هو ليس "استراحةً تحدسُ بالنَّهار"، كما يرى هيدغر في "إنشادِ المنادَى"؛ ليس مُناخاً مِن مُتباطئاتٍ موسيقيَّة؛ وإنَّما هو، في رؤيتنا، ليل تحوُّلاتٍ هائجة ومُزبدة وهادرة، مُسرفة في إنشاء الضَّوء. ليلٌ محارةٌ تشكِّلُ في جوفها مصيرَ القصيدة). فجنون هولدرلِن يكمن، كما يقول أمارجي، في أنَّه الشَّاعر الذي (اقتربَ أكثر ممَّا يجب من دائرة التَّكوين بوحدتها الأولى؛ وأنصت عن كثبٍ إلى مبدأ الخلق فنطق الطَّبيعة كما قد ينطقها إلهٌ أو نصفه).
من أجواء المجموعة اخترنا للقارئ قصيدة "شيرون":
شيرون
أين أنت، أيُّها النُّور الآرِق، يا مَن دأبكَ
النَّأيُ كلَّما أزِفَ الوقت، أين أنت، أيُّها النُّور؟
القلبُ ساهدٌ، ولكنَّ الليل المذهل
ما فتئ يُطبق عليَّ ويُبهرني.
كنتُ فيما مضى أقفو عشبَ الغابة،
يَحموراً بضَّاً على كتفِ التَّلِّ، ولم يكُ ذلك سُدىً،
لم يَكْذِبني يوماً نداءُ الطَّيرِ مِن رُسُلك،
لأنَّك حرَّاناً كنتَ تأتي على الدَّوام
علَّك تجد عندي مُهراً أو حديقة،
أو هِدايةً لقلبك، أوه أيُّها النُّور، أين أنت؟
القلبُ صحا من جديدٍ، وأنا
ما زلتُ حبيسَ الليل الوحشيِّ المهول.
قديماً، الأرضُ أعطتني
باقتها الأولى مِن صعترٍ وزعفرانٍ وحنطة.
تحت الأنجمِ البليلةِ لَقِنْتُ عِلمي،
ولم أحِط علماً إلَّا بما له اسمٌ. ثُمَّتَ
أقبَلَ هو، المنتصب، نصفُ الإله،
أجيرُ زيوس، فاجتثَّ من الحقول سحرَها
وأبدلَ به الوحشة. وها أنذه
أجلس وحيداً، السَّاعةَ تلوَ السَّاعة، وأفكاري
تؤلِّف من غيمِ الوَلَه ونُدُوَّةِ الأرض
صُوَراً، لأنَّ السُّمَّ بيننا؛ فيما أصغي مليَّاً
إلى البعيد، إن كان مُقبِلاً
عليَّ حبيبٌ مُخَلِّصٌ، أم لا.
الآن، أسمع هديرَ مركبةِ الرَّاعدِ
في الظَّهيرةِ، مُقبلاً، هو المُشار إليه بالبنان،
أعمدةُ البيت تهتزُّ لمقدَمِه، والأرضُ
تتطهَّر، والحزن يتصادى في إثره.
أسمعُ في الظُّلمة صوتَ الظَّافرِ، أسمعُه
في كمدِ المقتلَة، صوتَ مخلِّصي،
ومُترفةً بثمارها وأسرارها أرى الأرضَ
تحتَ أقدامه، مثلَ نارٍ هائلة.
ما بين حزنٍ وفرح، تتقلَّبُ الأيَّامُ
في عين النَّاظر، ولكنَّ العذابَ واصبٌ
على المفردِ الآيلِ اثنين في الشَّكل،
ولا أحدَ بتَّةً يعرف الأمثل.
تلك هي شوكة الإله؛ فمن ذا الذي
يؤثرُ الحيفَ الإلهيَّ على ذلك؟
ثمَّ بيننا حلَّ الإله، في بيتِ الكائن،
سافِرَ الوجه، فإذا الأرضُ غيرُ الأرض.
نورٌ! نور! حُرَّاً، فلتتنفَّس الآنَ
ولتكرعِ الفجرَ يا صفصافَ أنهاري.
قويمٌ أثرُ الخطوِ، وبالمهاميز، تبزغُ الآن
من منفاك المزعزَع، أيُّها المهيمن،
يا نجمي النَّهاريَّ الشَّريد؛ وأنتِ أيضاً،
أيَّتها الأرض، تبزغين، يا مَهدي الوادعَ،
وبيتَ آبائي، مَن لم يتمدَّنوا قط،
وانضووا بين الغيوم وبهائم الغابات.
فاتَّخِذْ لكَ الآنَ فَرَساً وزَرَداً،
اتَّخذْ رُمحاً، أيُّها الفتى. جوابُ الآلهة
أبداً لا يُنقَض، ومعه
سيبرُزُ هرقلُ آيباً، مِن بعد انتظار.
خاص- (تدوين)
Comments