Posted on October 05, 2013
by
Tadween Editors
| 0 comments
هنري ميلر
لم أبدأ بإعادة قراءة كتب معيّنة إلا في السنوات القليلة الماضية. أستطيع أن أتذكّر بدقّة الكتب الأولى التي أفردتُها من أجل إعادة القراءة: ولادة المأساة، الزوج الأبدي، أليسفي بلاد العجائب، الطقوس الإمبراطورية الفاحشة، وكتاب هامسن ألغاز.إن هامسن، كما قلتُ في غالب الأحيان، هو أحد المؤلفين الذين أثّروا فيّ بقوة ككاتب. لم يجذبني كتاب من كتبه مثلما فعل كتاب ألغاز. ففي تلك الفترة التي تحدثتُ عنها من قبل، حين بدأت بفصل مؤلفيّ المفضّلين كي أكتشف قوة السحر لديهم، كان الكتّاب الذين ركزت عليهم هم هامسن أولاً، ثم آرثر ماتشن، ثم توماس مان. وحين أعدتُ قراءة ولادة المأساة أتذكر أنني ذُهلتُ من استخدام نيتشه السحري للغة. ومنذ بضع سنوات فقط، وبفضل إيفا سيكليانو، أسكرني هذا الكتاب مرة أخرى.
ذكرتُ توماس مان. عشتُ عاماً كاملاً مع هانز كاستروب بطل رواية الجبلالسحري كما لو أنه حيّ، كما لو أنه أخ من لحمي ودمي. ولكن قدرة توماس مان كمؤلف قصص قصيرة وروايات قصيرة هي التي جذبتني وأدهشتني أثناء الفترة «التحليلية» التي تحدّثتُ عنها. وفي ذلك الوقت كانت موت في البندقية بالنسبة إليّ القصة القصيرة الأسمى. وعلى مدى بضع سنوات، على أي حال، تبدّل رأيي بتوماس مان وخاصة بقصته موت في البندقية. إنها قصة غريبة وربما تستحق الذكر. كان مثل هذا... أثناء أيامي الأولى في باريس تعرفت على شخص في غاية النشاط والإثارة اعتقدتُ أنه عبقري. كان اسمه جون نيكولاس. كان رساماً. وعلى غرار أيرلنديين كثيرين كان يمتلك أيضاً موهبة الثرثرة. كان الإصغاء إليه امتيازاً، سواء كان يناقش الرسم أو الأدب أو الموسيقا، أو يتفوّه بالهراء. كان يمتلك ميلاً إلى القدح، وحين يشتدّ غضبه، يصبح لسانه لاذعاً. وصادف في أحد الأيام أنني تحدثتُ عن إعجابي بتوماس مان، وقبل وقت ليس بطويل مدحتُ كتابه موت في البندقية. استجاب نيكولاس باستهزاء واحتقار. أخبرته بغضب أنني سأجلب الكتاب وأقرأ له القصة بصوت مرتفع. اعترفَ أنه لم يقرأها أبداً واعتقدَ أن اقتراحي ممتاز.
لن أنسى أبداً تلك التجربة. قبل أن أقرأ ثلاث صفحات بدأ توماس مان يتفتّت. لكن نيكولاس لم يتفوّه بكلمة. فأثناء قراءة قصة بصوت مرتفع، ولأذن ناقدة، تكشف الآلات التي تصرّ والتي تكمن وراء هذه الفبركة عن نفسها فجأة. وأنا، الذي اعتقدت أنني أمسك بين يديّ قطعة من الذهب الخالص، وجدتُ نفسي أنظر إلى قطعة من الورق الملوّن. وبعد أن وصلتُ إلى منتصف الكتاب رميته على الأرض. فيما بعد تصفّحتُ الجبل السحري وعائلةبودنبروكس،الروايتين اللتين اعتبرتهما عظيمين، فوجدتهما خادعين.
يجب أن أضيف بسرعة أن هذا النوع من التجربة لم يحدث لي إلا نادراً. كانت هناك تجربة نادرة ـ أحمرّ خجلاً من ذكرها! ـ متعلقة برواية رجال في زورق. لا أفهم لماذا لم أجد هذا الكتاب «مسلياً». ولكنني وجدته مرة مسلياً. أذكر بالفعل أنني ضحكت إلى أن خرجت الدموع من عينيّ. في يوم آخر، وبعد مرور ثلاثين عاماً، التقطتُ الكتاب مرة أخرى وبدأت بقراءته. لم أتذوّق من قبل قطعة كَرِش أكثر رداءة. كانت تنتظرني خيبة أمل أخرى، إلا أنها أخفّ، لدى قراءة كتاب انتصار البيضة. بدا وكأنه أقرب إلى بيضة فاسدة.(1) ولكنه جعلني مرة أضحك وأبكي.
آه، من كنتُ أنا، ماذا كنتُ أنا، في تلك الأيام الكئيبة منذ زمن طويل؟
ما بدأتُ بقوله هو أنه، لدى إعادة القراءة، أكتشف أكثر أن الكتب التي أتوق إلى قراءتها هي التي قرأتها أثناء طفولتي وبداية شبابي. ذكرتُ هينتي (Henty)، ليُبارك اسمه! هناك آخرون مثل رايدر هاغارد، وماري كوريللي، وبولوير ـ لايتون، ويوجين سو، جيمس فنمور كوبر، سينكيفيتش، أويدا(Ouida) (تحت رايتين)، مارك توين (هكلبري فن وتوم سوير بخاصة). تصوّروا أنني لم أقرأ أيّاً من أولئك المؤلفين منذ فتوّتي! يبدو هذا غير قابل للتصديق. بالنسبة إلى بو، وجاك لندن، وهوغو، وكونان دويل، وكبلنغ، لا يهمني كثيراً إذا لم أقرأ أعمالهم مرة ثانية.(2)
أحب أيضاً أن أقرأ مرة ثانية تلك الكتب التي اعتدتُ قراءتها بصوت مرتفع لجدي وهو يجلس على مقعد خياطته في منزلنا القديم في فورتينث وارد ببروكلن. كان أحدها، كما أذكر، عن «بطلنا» العظيم (ليوم واحد) الأميرال ديوي. كان آخر عن الأميرال فاراغوت، ربما عن معركة خليج موبايل، إذا كان هناك معركة كهذه. وفيما يتعلّق بهذا الكتاب أذكر الآن أنه أثناء كتابة الفصل الذي يدعى «حلمي بموبايل» في الكابوس المكيّف، كنتُ أذكر جيّداً أعمال فاراغوت البطولية. ودون شك، كان تصوّري عن موبايل ملوّناً بذلك الكتاب الذي قرأتُه منذ خمسين عاماً. ولكنّ الكتاب الذي عن الأميرال ديوي عرّفني على بطلي الحي الأول، ولكنه لم يكن ديوي بل عدوّنا اللدود أغوينالدو، المتمرد الفلبيني. كانت أمي تعلّق صورة ديوي، وهو يطوف فوق السفينة الحربية مين، فوق سريري. إن أغينالدو، الذي شَبَهُهُ معتم في ذاكرتي الآن، يتصل جسدياً بتلك الصورة الغريبة لرامبو الملتقطة في إثيوبيا، تلك التي يقف فيها في لباس كلباس السجن على ضفة جدول. لم يدرك والداي إلا قليلاً، حين قدّما إليَّ بطلنا الثمين، الأميرال ديوي، أنهما كانا يغذيّان فيَّ بذور متمرد. وإلى جانب ديوي وتيدي روزفلت، يقف أغينالدو كعملاق. كان العدو الأول الذي عبر أفقي. ما أزال أوقّر اسمه، كما أوقّر أسماء روير ي. لي وتوسّان أوفيرتير، محرر الزنوج العظيم الذي قاتل رجال نابليون المختارين وقهرهم.
كيف أستطيع أن أحجم عن ذكر كتاب كارلايل الأبطال وعبادة البطل فيسياق كهذا؟ أو كتاب إمرسون رجال ممثلون؟ ولماذا لا أفسح مجالاً لوثن مبكر آخر، جون بول جونز؟ ففي باريس، وبفضل بليس سندرار، تعلمت ما لم تعلّمه كتب التاريخ أو السير الذاتية عن جون بول جونز. إن القصة الهائلة لحياة هذا الرجل هي أحد تلك الكتب المتصورة التي لم يكتبها سندرار بعد وعلى الأرجح لن يكتبها أبداً. والسبب بسيط. متتبّعاً مسار ذلك الأميركي المغامر، جمع سندرار ثروة من المادة الهائلة. وفي مجرى رحلاته، بحثاً عن وثائق نادرة اشترى كتباً نادرة تتعلق بمغامرات جون بول جونز التي لا تُحصى، واعترف سندرار أنه أنفق عشرة أضعاف المبلغ الذي قدمه له الناشرون مقدّماً كعائدات. متتبعاً آثار جون بول جونز، قام سندرار برحلة أوديسة حقيقية. اعترف أخيراً أنه سيكتب في أحد الأيام إما مجلداً ضخماً عن الموضوع وإما كتاباً نحيلاً، وهذا شيء أفهمه تماماً.
كان الشخص الأول الذي غامرتُ بالقراءة له بصوت مرتفع هو جدّي، الذي لم يشجّع ذلك. ما أزال أسمعه يقول لأمي أنها ستندم بسبب وضع كل تلك الكتب بين يديّ. كان على صواب. ندمتْ أمي كثيراً على ذلك فيما بعد. إن أمي التي لا أذكر تماماً إن كنت قد رأيتُ كتاباً بين يديها قالتْ لي بالمصادفة حين كنتُ أقرأ معارك العالم الخمس عشرة الحاسمة إنها قرأت الكتاب منذ سنوات، في الحمام. ذُهلتُ، ليس من أنها اعترفت أنها تقرأ في الحمام، وإنما من اختيارها لهذا الكتاب، من بين الكتب كلّها التي قرأتها هناك.
كانت القراءة بصوت مرتفع لأصدقاء طفولتي وخاصة جوي وتوني، صديقيَّ الأولين، مفتّحة للعين بالنسبة إلي. اكتشفتُ باكراً في الحياة ما يكتشفه البعض بعد وقت طويل، ويسبب لهم الغمّ والقرف، وهو أن القراءة بصوت مرتفع للناس يمكن أن تساعدهم على النوم. إما كان صوتي رتيباً، وإما أنني أقرأ بطريقة رديئة، أو كانت الكتب التي أختارها من النوع غير الصالح. كان الذين يصغون إليّ ينامون أثناء إصغائهم إلا أن هذا لم يحبطني ويوقفني عن مواصلة تلك الممارسة. ولم تغيّر تلك التجارب الرأي الذي امتلكته عن أصدقائي الصغار. كلا، فقد وصلتُ بهدوء إلى نتيجة مفادها أن الكتب لم تكن للجميع. وما أزال أتمسّك بوجهة النظر هذه. إن الشيء الأخير على الأرض الذي سأنصح به هو جعل الجميع يتعلمون القراءة. لو كان الأمر بيدي لفضّلت أن يتعلم الطفل حرفة النجارة، أو البناء أو أن يصبح حدائقياً أو صياداً أو صياد سمك. عليه أن يتعلم أولاً الأمور العملية ثم ينتقل إلى وسائل الترف. فالكتب هي وسائل ترف. وبالطبع أتوقع من الفتى السويّ أن يرقص ويغني منذ طفولته. وأن يلعب الألعاب. سأشجّع هذه الميول بقوة وعزم. أما قراءة الكتب فيمكن تأجيلها.
أن يلعب الألعاب... آه، هناك فصلٌ في الحياة يمثّل فئة قائمة بنفسها. أعني، أولاً، الألعاب الخارجية التي يلعبها الأطفال الفقراء في شوارع مدينة كبيرة. أتجاوز إغراء التوسّع في هذا الموضوع خشية أن أؤلّف كتاباً من نوع مختلف جداً.
على أي حال، إن الطفولة موضوع لا أتعب منه أبداً. لا أتذكر الألعاب البرية والعظيمة التي لعبناها في النهار وفي الليل، ولا الشخصيات التي عاشرتها والتي ألّهتها أحياناً، كما يميل الأطفال إلى أن يفعلوا. شاركتُ رفاقي في تجاربي كلّها، حتى تجربة القراءة. مرة بعد أخرى، ذكرتُ في كتابتي الذكاء المذهل الذي تجلّى لدينا أثناء مناقشة المشاكل الجوهرية للحياة. وكانت موضوعات كالخطيئة والشر والتقمص والحكومة الجيدة والأخلاق وطبيعة الله واليوتوبيا والحياة على كواكب أخرى طعامنا وشرابنا. بدأتْ ثقافتي الحقيقية في الشارع، في الأمكنة الفارغة في أيام تشرين الثاني (نوفمبر) الباردة، أو في زوايا الشارع في الليل، وكنّا ننتعل مزالجنا في غالب الأحيان. وبصورة طبيعية، كان أحد الموضوعات التي نناقشها دوماً هو الكتب، التي كنا نقرأها والتي لم يكن من المفترض أن نعرف عنها. أعرف أن هذا سيبدو تهوراً إذا قلتُ هذا ولكن يبدو لي أن مؤولي الأدب العظام فحسب يستطيعون أن يبزّوا الولد في الشارع حين يتعلق الأمر بانتزاع نكهة كتاب وجوهره. وبرأيي المتواضع، إن الطفل أقرب إلى فهم المسيح من الكاهن، وأكثر قرباً إلى أفلاطون في وجهات نظره في الحكم من الشخصيات السياسية في هذا العالم.
أثناء تلك الفترة الذهبية من الطفولة دخلتْ في عالم كتبي مكتبة كاملة موضوعة في خزانة كتب من خشب الجوز بأبواب زجاجية ورفوف متحركة، مليئة بكتب الأطفال. كانت من مجموعة إنكليزي يدعى إسحق ووكر، هو جدّ أبي، كان أحد أوائل الخياطين والتجار المشهورين في نيويورك. وفيما أراجع هذه الكتب الآن في ذهني، كانت كلها أنيقة التجليد، عناوينها نافرة ولونها ذهبيّ، كان تصميم الأغلفة جميلاً أيضاً. وكان الورق سميكاً ومصقولاً، والطباعة غامقة وواضحة. باختصار، كانت تلك الكتب ممتازة في جميع النواحي. وبما أن مظهرها كان يبعث الرهبة فقد استغرق الأمر بعض الوقت بالنسبة إلي كي أقرأها.
ما سأرويه شيء مثير للفضول. يتعلق بمقتي الشديد لكل ما هو إنكليزي. أعتقد أنني أعبّر عن الحقيقة حين أقول إن سبب هذه الكراهية يتصل عمقياً بقراءة مكتبة إسحق ووكر الصغيرة. كم كان قرفي شديداً حين اطلعت على محتوى تلك الكتب. يمكن استشفاف هذا القرف من حقيقة أنني نسيت العناوين بصورة كاملة. ثمة عنوان واحد يطوف في ذاكرتي لكنني غير متيقّن إن كان هذا صحيحاً: صاحب العزبة في الريف. كل ما تبقى بياض. أستطيع التعبير عن طبيعة ردّ فعلي ببضع كلمات. شعرتُ لأول مرة في حياتي بمعنى الكآبة والسوداوية. بدتْ تلك الكتب الرشيقة كلّها مكسوة بحجاب من الضباب الكثيف. صارت إنكلترا بالنسبة إليّ أرضاً مجلّلة بغموض شديد، وبالشر والقسوة والضجر. لم يصدر شعاع ضوء وحيد من تلك المجلدات الكريهة. كانت طيناً بدائياً على المستويات كلّها. وعلى الرغم من كونها بلا معنى أو غير عقلانية، فإن هذه الصورة لإنكلترا والإنكليز استمرت حتى بلوغي منتصف العمر، وكي أكون صادقاً، إلى أن زرتُ إنكلترا وسنحت لي فرصة اللقاء مع إنكليز في أرضهم الأصلية(3). (ويجب أن أعترف أن انطباعي الأول عن لندن تواشج بصورة وثيقة مع صورة طفولتي عنها؛ وهو انطباع لم يتبدّد أبداً بشكل كامل).
حين بدأت بقراءة ديكنز تعززت وتوثّقت تلك الانطباعات. أمتلك بضع ذكريات ظريفة تتعلق بقراءة ديكنز. كانت كتبه قاتمة، مريعة في بعض الأجزاء، ومضجرة عادة. من بينها كلّها، رواية ديفد كوبرفيلد هي الأكثر إمتاعاً، والأكثر إنسانية، بحسب مفهومي (آنذاك للكلمة). ولحسن الحظ، كان هناك كتابٌ منحتْهُ لي عمة جيدة خدمتْ كمصحّحة لهذه النظرة الكئيبة إلى إنكلترا والشعب الإنكليزي. كان عنوان الكتاب، إذا أسعفتني ذاكرتي، قصة فتى عن إنكلترا من تأليف إيليس. أتذكر جيداً المتعة التي منحها لي هذا الكتاب. كانت هناك أيضاً كتب هينتي التي كنتُ أقوم بقراءتها أيضاً، أو التي قرأتها منذ مدة، وحصلتُ منها على فكرة مختلفة كلياً عن العالم الإنكليزي. ولكن كتب هينتي كانت معنية بالبطولات التاريخية، بينما كتب إسحق ووكر كانت تتحدث عن الماضي المباشر. وبعد سنوات، حين عثرتُ على روايات توماس هاردي، عشتُ من جديد ردود فعل طفولتي تلك، أعني السيئة. ذلك أن كتب هاردي الكئيبة والمأساوية والمليئة بالحوادث المؤسفة والمصائب الحادثة بالصدفة أو المتزامنة جعلتني أعدّل صورتي «الإنسانية» عن العالم مرة أخرى. أُرغمتُ في النهاية على إصدار الحكم على هاردي. فعلى الرغم من جوّ الواقعية الذي يسود كتبه، فإنها لم تكن «صادقة» مع الحياة. أردتُ تشاؤمي «مستقيماً».
حين عدتُ إلى أميركا من فرنسا التقيتُ فردين كانا مولعين بمؤلف إنكليزي لم أسمع به أبداً وهو كلود هوتون. كان يُدعى «روائياً ميتافيزيقياً» في الغالب. على أي حال، فعل كلود هوتون أكثر من أي شخص أو «سيّد» إنكليزي، سبق أن قابلتهّ باستثناء دبليو. ترافيرس سايمونس، كي يبدل بعمق صورتي عن إنكلترا. كنت قد قرأتُ أغلب أعماله. وسواء كان أداؤها جيداً أو سيئاً، فإن كتب كلود هوتون تأسرني. ويعرف كثير من الأميركيين رواية أنا جوناثان سكريفينير، التي تصلح لأن تكون فيلماً رائعاً، على غرار بعض رواياته الأخرى. إن روايته جوليان غرانت يضيّع طريقه، المفضلة لدي، وكل التغير، الإنسانية! هما أقل شهرة، للأسف.
ولكن هناك أحد كتب كلود هوتون ـ هنا ألامس موضوعاً آمل أن أوسّعه فيما بعد ـ يبدو كأنّه كُتب خصّيصاً لي. يدعى هدسون ينضم إلى القطيع من جديد. وفي رسالة طويلة إلى المؤلف شرحتُ سبب ذلك. ستُنشر هذه الرسالة في أحد الأيام(4). ما أذهلني، لدى قراءة كتابه، أنه بدا كأنه يقدم صورة حميمة لحياتي أثناء فترة جوهرية. كانت الظروف الخارجية «ملتبسة»، ولكن الداخلية كانت حقيقية بشكل يدعو إلى الهلوسة. لم يكن بوسعي القيام بشيء أفضل. اعتقدتُ لبعض الوقت أن كلود هوتون حصل على مدخل بطريقة غامضة إلى هذه الحقائق والأحداث في حياتي. وفي مجرى تبادلنا للرسائل اكتشفتُ حالاً أن أعماله كلّها خيالية. ربما سيندهش القارئ إذا علمَ أنني أظنّ أن مصادفة كهذه «غامضة». ألا تتواشج الحيوات والشخصيات في الرواية مع نظائر واقعية؟ بالطبع. ولكنني ما أزال متأثراً. إن الذين يعتقدون أنهم يعرفونني بصورة حميمة يجب أن يقرأوا هذا الكتاب.
والآن، وبدون سبب، إلا إذا كان التوهّج اللاحق لذكريات الطفولة، يقفز إلى ذهني اسم رايدر هاغارد. إنه أحد المؤلفين المدرجين في قائمة المائة كتاب التي أعددتها لغاليمار. كان هناك كاتب أثارني، محتويات كتبه غامضة وغائمة، لا أستطيع أن أتذكر إلا بضعة عناوين: هي، عائشة، مناجم الملك سليمان، آلن كاترمين. وحين أفكر بها أرتجف كما أفعل حين أتصوّر من جديد اللقاء بين ستانلي ولفنغستون في أفريقيا الأكثر ظلاماً. أنا متأكد أنني حين أعيد قراءته، كما توقعت أن أفعل بعد وقت قصير، سأكتشف، كما حدث مع هينتي، أن ذاكرتي ستصبح حية ومثمرة على نحو مذهل.
وبعد أن انتهتْ مرحلة المراهقة ازدادت صعوبة العثور على مؤلف قادر على إنتاج تأثير يعادل التأثير الذي أحدثتْهُ أعمال رايدر هاغارد. ولأسباب غامضة الآن، اقتربت رواية تريلبي من فعل هذا. إن تريلبي وبيتر إبيتسون روايتان فريدتان. ما هو أكثر أهمية أن مؤلفهما رسّام مشهور بسبب رسومه التزيينية التي نشرها في مجلة بنش. ففي مقدمة بيتر إبيتسون التي نشرتها دار مودرن لايبراري، يروي ديمس تيلور كيف «فيما هو يسير في إحدى الليالي في هاي ستريت، بيسووتر، مع هنري جيمس، قدم دو مورييه (Du Murier) لصديقه فكرة رواية، وتابع كي يتحدث عن حبكة تريلبي». قال: «جيمس رفض العرض». سأقول: لسوء الحظ. أستطيع أن أتصور بمقت ما الذي سيفعله جيمس لموضوع كهذا.
إن ما هو غريب بما يكفي أن الشخص الذي دلّني على دو مورييه وضع بين يدي أيضاً رواية فلوبير بوفار وبوشيه، التي لم أفتحها إلا بعد مرور ثلاثين عاماً. قُدِّم هذا المجلد وكتاب التربية العاطفية لوالدي لتسديد دين صغير له. شعر والدي بالقرف طبعاً. رافقت رواية التربية العاطفة تداعيات غريبة. يقول برنارد شو إن بعض الكتب لا يمكن أن تُقدّر، ويجب بالتالي ألا تُقرأ، إلا بعد أن يتجاوز المرء الخمسين. كان أحد الكتب التي ذكرها هذا العمل المشهور لفلوبير. إنه كتاب آخر من تلك الكتب مثل توم جونز ومول فلاندرز، الروايتين اللتين أنوي قراءتهما يوماً ما، وخاصة بعد أن «بلغتُ سنّ الرشد».
سأعود الآن إلى رايدر هاغارد... غريب أن يُربط كتاب مثل نادجا لأندريه بريتون، بأية طريقة بالتجارب العاطفية المتولّدة من قراءة أعمال رايدر هاغارد. أعتقد أنني تحدثت مطولاً في الصلب الوردي ـ أم هل في تذكّر لتتذكّر؟ ـ عن السحر الذي سببته نادجا لي دوماً. كلما قرأتها أشعرُ بالفوضى الداخلية نفسها، وينتابني الإحساس اللذيذ بصورة مروعة الذي يمتلك المرء، مثلاً، حين يجد نفسه فاقداً بشكل كامل للاتجاه في عتمة غرفة يعرف كل إنش مربع فيها. أتذكر أنني انتخبتُ قسماً من الكتاب ذكرني بقوة بقطعة النثر الأولى التي كتبتها، أو على الأقل الأولى التي قدمتها لمحرر(5). (فيما أكتب، أدرك أن هذه المقولة غير صحيحة تماماً، لأن قطعة نثري الأولى كانت مقالة عن كتاب نيتشه المسيح الدجّال، التي كتبتها لنفسي في حانوت والدي. كانت القطعة الأولى من الكتابة التي قدمتها إلى محرر تسبق زمنياً القطعة السابقة ببضع سنوات، وكانت مقالة نقدية أرسلتها إلى مجلة بلاك كات فقُبلت ودُفع مقابلها مائة وخمسة وسبعون دولاراً مما أدهشني. كانت تلك المكافأة التافهة كافية في ذلك الوقت كي تلهبني وتجعلني أرمي قبعة جديدة في عرض الطريق سحقتها شاحنة عابرة.
لماذا يجب أن يُربط كاتب بحجم أندريه بريتون في ذهني برايدر هاغارد، من بين المؤلفين جميعهم، أمر يحتاج إلى صفحات من أجل شرحه. ربما ليس الترابط بعيد الاحتمال في النهاية، إذا ما فكرنا بالمصادر الخاصة التي استقى منها السرياليون الإلهام، والغذاء والقوة. ما تزال ناجدا، من وجهة نظري، كتاباً فريداً. (إن الصور التي ترافق النص تملك قيمة خاصة بها.) على أي حال، إنه أحد الكتب القليلة التي قرأتُها عدة مرات دون أن يتلاشى السحر الأصلي. أعتقد أن هذا في ذاته يكفي كي يجعله فريداً.
إن الكلمة التي سحبتها بصورة متعمدة، حين تحدّثتُ عن رايدر هاغارد ونادجا هي «لغز». فهذه الكلمة، في صيغة المفرد والجمع في آن، احتفظتُ بها كي أعالج ارتباطاتي الممتعة والهوسيّة بالقواميس والموسوعات. كانت كثيرةً الأوقات التي أمضيتُ فيها أياماً كاملة في المكتبة العامة أبحث عن معاني كلمات وموضوعات. مرة أخرى، كي أكون صادقاً، إن الأيام الأروع هي التي أمضيتها في المنزل، مع رفيقي جو أوريغان الذي كان نعْمةً. كانتْ أياماً شتائية كئيبة وكان الطعام فيها نادراً وكل الآمال والأفكار بالحصول على وظيفة متلاشية. ويمتزج مع هبات القاموس والموسوعات تذكر أيام أخرى أو ليال أمضيتها كلها في لعب الشطرنج أو البنغ بونغ أو الرسم بالألوان المائية كما لو أننا ممسوسان.
في صباح أحد الأيام، وقبل أن أغادر السرير، لجأت إلى قاموس فنك وواغنال الكامل كي أبحث عن كلمة خطرت في ذهني حين استيقظت. وكالعادة تقود كلمة إلى أخرى، إذ ما هو القاموس إن لم يكن الشكل الأمكر «للعبة سيرك»، في قناع كتاب؟ وبوجود جو إلى جانبي، جو الشكاك الأبدي، بدأ نقاش استمر النهار والليل كله، ولم يتباطأ البحث عن المزيد من التعريفات أبداً. وبسبب من جو أوريغان الذي حفّزني كي أشكك دوماً بكل ما قيل بصورة عمياء، نشأت شبهاتي الأولى حول قيمة القاموس. قبل هذه اللحظة كنت أسلم بالقاموس جدلاً، كما يسلم المرء بالكتاب المقدّس. وقد اعتقدت،على غرار الجميع، أنه لدى الحصول على تعريف يحصل المرء على معنى، أو حقيقة. ولكن في ذلك اليوم، متنقّلاً من اشتقاق إلى اشتقاق، عثرتُ على التغيّرات الأكثر إدهاشاً في المعنى، على تناقضات ونقض للمعاني الأولى، وبدأ الإطار الكلي للصناعة المعجمية يذوي وينحدر. وعند الوصول إلى «الأصل» الأول للكلمة كنتُ ألاحظ أن المرء إزاء جدار حجري. أكيد أنه من غير الممكن أن الكلمات التي كنا نبحث عنها قد دخلت اللغة الإنسانية عند النقاط المشار إليها! وإذا ما عدنا إلى السنسكريتية والعبرية والأيسلندية (وأية كلمات رائعة تنبع من الأيسلندية!) لم يكن هذا يعني أي شيء في رأيي. فقد دُفع التاريخ إلى الخلف أكثر من عشرة آلاف عام، وهنا كنا نتخبّط على مدخل الأزمنة الحديثة. وكان يكفي لجعلنا نتوقف أن كثيراً من الكلمات ذات المعاني الحافّة الميتافيزيقية والروحية، التي وظفها اليونانيون بحرية، فقدتْ أهميتها. بعبارة موجزة، تبيّن على الفور أن معنى كلمة تغيّر أو اختفى كليّاً، أو صار النقيض، بحسب زمان ومكان وثقافة الناس الذين يستخدمون المصطلح. إن الحقيقة البسيطة هي أن الحياة هي ما نجعلها عليه، كيف نراها بوجودنا كله، وليس ما أُعطي وقائعياً وتاريخياً أو إحصائياً. ينطبق هذا على اللغة أيضاً. إن أقل من يفهم هذا هو العالم بفقه اللغة. ولكن دعوني أنتقل من القاموس إلى الموسوعة...
كان من الطبيعي في قفزنا من معنى إلى آخر، لدى تتبّعنا استخدامات الكلمات التي نبحث عنها، أنه من أجل معالجة أكمل وأعمق يجب أن نلجأ إلى الموسوعة. فالسيرورة التعريفية هي المرجع والإسناد الترافقي. وكي نعرف ما تعنيه كلمة محدّدة يجب أن نعرف الكلمات التي تحيط بها. إن المعنى لا يُمنح أبداً بصورة مباشرة؛ بل يُستنتج أو يُضمّن، أو يُقطّر. وهذا ربما لأن المصدر الأصلي مجهول.
ولكن الموسوعة! آه، ربما سنكون هنا على أرض صلبة! سنبحث عن الموضوعات، لا الكلمات. سنكتشف متى صعدت تلك الرموز الغامضة التي تصارع الرجال ونزفوا من أجلها، وعذبوا وقتلوا بعضهم بعضاً. هناك مقالة رائعة في الموسوعة البريطانية (الطبعة المحتفى بها) حول «الألغاز»(6)، وإذا رغب المرء بإمضاء يوم مفيد وممتع ومسلّ في المكتبة، عليه أن يبدأ بكلمة مثل «ألغاز». ستقودك إلى مناطق أشمل وأبعد، ستعود إلى المنزل مترنّحاً، غير مبال بالطعام، أو النوم أو متطلبات النظام الآلي الأخرى. ولكنك لن تخترق اللغز أبداً! وإذا ما حذوت حذو الباحث الجيد وأرغمت على الانتقال من «مرجعيات» منتقاة من قبل معدي الموسوعة الذين يعرفون كل شيء إلى «مرجعيات» أخرى حول الموضوع نفسه، ستكتشف فوراً أن خوفك واحترامك للحكمة المتراكمة المجموعة في الموسوعات يذويان ويتفتتان. من الجيد أن يصبح المرء حذراً من هذا التعلّم المدفون. من هم، في النهاية، العلماء المدفونون في الموسوعات؟ هل هم المرجعيات النهائية؟ كلا! إن المرجع الأخير يجب أن يكون الذات دوماً. إن هؤلاء العلماء الذين يذوون «عملوا في الميدان»، وراكموا الكثير من الحكمة. ولكن لا الحكمة الإلهية ولا حتى محصلة الحكمة الإنسانية (حول أي موضوع) هي التي قدموها لنا. عملوا كالنمل والقنادس، وعادة بالقليل من حس الفكاهة والخيال كتلك الكائنات المتواضعة. تقوم إحدى الموسوعات باختيار مرجعياتها، وتقوم أخرى باختيار مرجعيات أخرى. إن المرجعيات هي دوماً مخدرات في السوق. حين تتخلص منها تعرف القليل عن موضوع بحثك وأكثر بكثير عن أشياء لا أهمية لها. وفي غالب الأحيان تنتهي إلى اليأس، والشك والتشوش. وإذا حدث وربحت فسيكون هذا شحذاً لملَكَة التساؤل، التي يمجّدها اشبنجلر والتي يعرّفها بأنها الإسهام الرئيسي الذي قدمه نيتشه.
كلما فكرت بالأمر اعتقدت أن الإسهام غير المقصود الذي قدمه له معدو الموسوعات هو تشجيع البحث الكسول والممتع عن التعلم، الأكثر حماقة بين التسليات كلّها. كانت قراءة الموسوعة مثل تناول المخدرات، المخدرات التي يقولون إنه ليس لها تأثير شرّير، أي لا تشكل عادة. وكمثل الصينيين القدماء العميقين والمتوازنين والعقلانيين، أعتقد أن استخدام الأفيون مفضّل. إذا رغب المرء بالاسترخاء، والاستمتاع بالتوقف عن الاهتمام، وبتحفيز الخيال ما الذي يمكن أن يكون مفضياً أكثر إلى الصحة الروحية والأخلاقية والذهنية؟ أعتقد أن الاستخدام الحكيم للأفيون أفضل بكثير من المخدّر الكاذب للموسوعات.
حين أفكر بالأيام التي قضيتها في المكتبة ـ من الغريب أنني لا أتذكر زيارتي الأولى إليها ـ أشبّهها بالأيام التي يقضيها مدمن على الأفيون في زنزانته. كنت أذهب بانتظام للحصول على «جرعتي» وأحصل عليها. وكنت في الغالب أقرأ عشوائياً، أي كتاب يقع في يدي. كنتُ أدفن نفسي أحياناً في الأعمال التقنية، أو الأدلّة، أو «كراريس» الأدبيات. كان هناك رفّ في غرفة القراءة في مكتبة الشارع الرابع والعشرين في نيويورك، أذكر أنه كان مكتظاً بالأساطير (من بلدان كثيرة، وشعوب كثيرة) والتي التهمتها كما لو أنني جرذ جائع. أحياناً، وكأن مهمّة حماسيّة تحرّكني، كنت أنظر في الأسماء فقط. كان هناك أوقات أخرى حين بدا من الملحّ ـ وبالفعل كان من الملحّ، لأن نشوتي كانت عميقة ـ دراسة عادات الخلد أو الحيتان، أو أنواع الأفاعي التي تتجاوز الألف. حين صادفتُ كلمة «كسوف» للمرة الأولى، دفعتني إلى مطاردة استمرّتْ أسابيع، وتركتني متخبطاً في النهاية في الأعماق النجمية لهذا الجانب من كوكبة العقرب.
يجب أن أستطرد هنا كي أذكر تلك الكتب الصغيرة التي يعثر عليها المرء بالمصادفة، والتي، على الرغم من تأثيرها غير المحدود يقدّرها المرء أكثر من الصفوف الكاملة من الموسوعات ومجموعات المعرفة البشرية الأخرى. إن هذه الكتب، المتناهية الصغر، والهائلة التأثير، يمكن أن تُشبّه بأحجار ثمينة مخبأة في أحشاء الأرض. وكمثل الأحجار الكريمة، تمتلك هذه الكتب صفة شفافة أو «بدئية» تمنحها جودة أبدية وثابتة وبسيطة. وهي محدودة في عددها وتنوعها تقريباً كمثل الكريستال في الطبيعة. سأذكر كتابين لا على التعيين عثرت عليهما بعد الفترة التي أتحدث عنها يوضحان فكرتي أحدهما هو رموز الوحي، لفردريك كارتر، الذي التقيتُ به في لندن في ظروف خاصة؛ الثاني هو الحلقة، بقلم إدواردو سانتياغو، وهو اسم مستعار. أشك إن كان هناك مائة شخص في العالم سيهتمون بالكتاب الثاني. إنه أغرب كتاب أعرفه، على الرغم من أن موضوعه هو المصالحة بين الخير والشرّ، أحد الموضوعات الدائمة للفلسفة والدين. ثمة شيء ما أكثر غرابة مرتبط بهذه الطبعة الفريدة والمحدودة هو الخطأ في الطباعة الذي ارتكبه الناشر. في قمة كل صفحة، وبطباعة سوداء، الكلمة مكتوبة بشكل خاطئ. وما هو أكثر غرابة هو نسخ قناع حياة وليم بليك (من مجموعة صالة البورتريه القومية، لندن) المقدمة في الصفحة 40. وكان هذا يجعل محبي بليك يرتجفون من البرد.
وبما أنني تحدثت طويلاً، إلى حد ما، عن استخدام القاموس، والتعريفات وفشلها في التعريف، وبما أن القارئ العادي غير ميّال إلى الاعتراف بأهمية كلمة مثل «العودة»، دعوني أقدم التعريفات الثلاثة التي قدّمها قاموس فنك آند واغنال:
1. العودة إلى مكان أو وضع سابق؛ إعادة تأسيس؛ استعادة كاملة.
2. لاهوت. الاستعادة النهائية لأولئك الذين ماتوا غير تائبين إلى القداسة وفضل الله.
3. علم الفلك. العودة الدورية لجرم دائر إلى النقطة نفسها في مداره.
وفي هامش في ص 4 يقدم سانتياغو التالي من فيرجيل لج. كاركوبينو (باريس، 1930):
استخدم الكلدانيون كلمة العودة لوصف عودة الكواكب في القبّة السماويّة إلى نقاط متناسقة مع مغادرتها. إنها أيضاً الكلمة التي استخدمها الأطباء اليونانيون لوصف شفاء المريض.
أما بالنسبة إلى كتاب فريدريك كارتر الصغير رموز الوحي فيمكن أن يكون هاماً أن نعرف أن مؤلف هذا الكتاب قدّم لد.إتش. لورنس مادة لا تُقدّر بثمن لكتابة رؤيا نبوئيّة. ومن دون أن يعرف، قدّم لي كارتر أيضاً عبر كتابه المادة والإلهام اللذين آمل أن أكتب بهما في أحد الأيام التنّين والكسوف. وهذه خاتمة وذروة «رواياتي السيرية»، كما تُدعى، وأثق بأنها ستكون عملاً سيميائياً شفافاً ومكثّفاً، ونحيلاً كرقاقة ومُحكماً.
إن أعظم الكتب الصغيرة كلّها بالطبع هو كتاب لاوتسو التاو ـ تي تشينغ.أعتقد أنه ليس مثالاً على الحكمة العليا فحسب وإنما فريد في تكثيفه للفكر أيضاً. وكفلسفةٍ في الحياة فإنه لا يبني فلسفته الخاصة على أنظمة الفكر الأضخم التي قدمتها شخصيات أخرى عظيمة في الماضي، بل يتجاوزها في كافة النواحي كما أعتقد. يحتوي الكتاب على عنصر واحد يفرّقه عن فلسفات أخرى في الحياة هو حس الفكاهة. وبصرف النظر عن التابع المحتفى به لاوتسو الذي جاء بعد بضعة قرون، لا نصادف حس الفكاهة مرة ثانية في هذه المناطق الرفيعة إلى أن نصل إلى رابليه (Rabelais). ولأن رابليه كان طبيباً وفيلسوفاً وكاتباً واسع الخيال فإنه جعل حس الفكاهة يظهر ما هو في الحقيقة: المحرِّر الكبير. ولكن بالمقارنة مع الثائر الروحي الصيني القديم، الرقيق والفقية، يبدو رابليه مناضلاً فظّاً. وربما كانت موعظة الجبلقطعة الكتابة القصيرة الوحيدة التي يمكن مقارنتها بإنجيل لاوتسو الصغير على صعيد الحكمة والصحة. يمكن أن تكون رسالة روحية أكثر من كتاب لاوتسو، ولكنني أشك إن كانت تحوي حكمة أعظم. إنها تخلو تماماً من حس الفكاهة.
ثمة كتابان من الأدب الصرف، ينتميان إلى فئة خاصة بهما، حسب اعتقادي، هما رواية بلزاك سيرافيتا(Seraphita) ورواية هيرمان هسّه سيدهارتا. قرأتُ سيرافيتا للمرة الأولى بالفرنسية، في فترة لم تكن فيها لغتي الفرنسية جيّدة. إن الشخص الذي قدّم إليّ الكتاب وظّف الاستراتيجية الفنيّة التي تحدّثتُ عنها سابقاً: لم يقل تقريباً أي شيء عن الكتاب سوى أنه كتاب من أجلي. وبما أنه جاء منه فإنه كان محفّزاً بما يكفي. كان بالفعل كتاباً «من أجلي». وقد جاء في اللحظة المناسبة تماماً في حياتي وكان له التأثير المرغوب. وإذا كان بوسعي التعبير عن الأمر هكذا فقد «جربته» عبر تقديمه للناس الذين لم يكونوا مستعدين لقراءته. تعلّمتُ الكثير من تلك التجارب. إن سيرافيتا هو أحد تلك الكتب، وهي نادرة بالفعل، التي تشقّ طريقها بدون مساعدة، وهي «تُحوّل» الشخص أو تُضجره وتقرفه. لا يمكن أن تفعل الدعاية أي شيء لجعله يُقرأ على نطاق واسع. وبالفعل، تكمن ميزته في أنه لن يُقرأ في أي وقت على نحو فعّال إلا من قبل قلّة مختارة. صحيح أنه في بداية مهنة المؤلف كان له رواج كبير. ألم نسمع عن ابتهاج الطالب الفييني الشاب الذي اعترض بلزاك في الشارع وتوسل طالباً تقبيل اليد التي ألّفت سيرافيتا؟ إن الأعمال الرائجة تموت فوراً، ولحسن الحظ أنها تموت، لأنه حينئذ فحسب يبدأ الكتاب رحلته الحقيقيّة على درب الخلود.
قرأتُ رواية سيدهارتا للمرة الأولى في الألمانية، في وقت لم أكن فيه قد استخدمت لغتي الألمانية لثلاثين عاماً على الأقل. كان كتاباً يجب أن أقرأه مهما كان الثمن لأنه، كما قيل لي، كان ثمرة زيارة هسّه إلى الهند. لم يكن قد تُرجم إلى الإنكليزية وكان من الصعب بالنسبة إلي، في ذلك الوقت، أن أجد طبعة 1925 الفرنسية التي نشرها غراسيه في باريس. وفجأة وجدتُ نفسي مع نسختين من الرواية، في الألمانية، أرسل إحداهما مترجمي كرت فاجنسيل، وأرسلت الأخرى زوجة جورج ديبرن، مؤلف بحث. ولم أكد أنهي قراءة النسخة الأصلية حتى أرسل إليَّ صديقي بائع الكتب الباريسي لاليور عدة نسخ من طبعة غراسيه. أعدتُ قراءة الكتاب على الفور في تلك اللغة مكتشفاً بغبطة أنني لم أفقد أي شيء من نكهة أو جوهر الكتاب بسبب معرفتي السيئة للغة الألمانية. ومنذ ذلك الوقت كنت أقول للأصدقاء، وثمة صحة في هذه المبالغة، أنه لو لم يكن بالإمكان الحصول على رواية سيدهارتا سوى بالتركية أو الفنلندية أو الهنغارية لقرأتها وفهمتها كما حصل، على الرغم من أنني لا أعرف كلمة واحدة من أي من هذه اللغات الأجنبية.
ليس صحيحاً القول بأنه انتابتني رغبة قوية لقراءة هذه الرواية لأن هيرمان هسّه ذهب إلى الهند. كانت كلمة سيدهارتا، لقباً ألصقه ببوذا، وقد استسغته. وقبل وقت طويل من قبولي ليسوع، قبلتُ لاوتسو وغواتما بوذا. أمير التنوير! لم يكن هذا الاسم ملائماً للمسيح. كانت تسميتي للمسيح اللطيف هي رجل أحزان. عزفتْ كلمة تنوير على وتر داخلي لديّ؛ بدتْ وكأنها تحرق تلك الكلمات المرتبطة، بصورة صحيحة أو خاطئة، بمؤسس المسيحية. أعني كلمات كخطيئة وخلاص وهلمجرّا. وإلى هذا اليوم ما أزال أفضّل المعلم الروحي على قدّيس مسيحي أو أفضّل الحواريين الاثني عشر. ففي المعلم الروحي هناك، وسيظل هناك، هذا الجو، الغالي عليّ، «جو التنوير».
أودّ أن أتحدّث مطوّلاً عن رواية سيدهارتا، ولكن بالنسبة إلى رواية سيرافيتا أعرف أن خير الكلام ما قلّ ودلّ. وعليه، سأقنع نفسي باقتطاف مقطع كي أفيد أولئك الذين يعرفون كيف يقرأون ما بين السطور، بضع كلمات مأخوذة من مقطع سيري نشره هسّه في عدد سنة 1946 من مجلة هورايزون، في لندن:
كان التوبيخ الآخر لأصدقائي صحيحاً: اتهموني بالافتقار إلى الإحساس بالواقع. ذلك أنه لا كتاباتي ولا رسومي تنسجم في الحقيقة مع الواقع، فحين أؤلّف أنسى جميع الأشياء التي يطلبها قارئ مثقّف من كتاب جيّد، وقبل كل شيء أنا أفتقر بمعنى حقيقي للواقع.
أرى أنني قد لامستُ بدون قصد إحدى رذائل أو نقاط ضعف القارئ اليوم. يقول لاوتسو: «حين يبدأ رجل يرغب بإصلاح العالم بالعمل فإنه يكتشف أن العمل بلا نهاية». وهذا صحيح للأسف! وفي كل مرة أشعر بأنني مضطر لمناصرة كتاب جديد ـ بالقوى كلها التي أمتلكها ـ أسبّب المزيد من العمل، والمزيد من الألم، والمزيد من الإحباط لنفسي. تحدثتُ عن هوسي بكتابة الرسائل. أوضحتُ كيف أجلس، بعد الانتهاء من كتاب جيّد، وأخبر الجميع عنه. أمر مثير للإعجاب، كما تعتقدون؟ ربما. ولكنه أيضاً حماقة ومضيعة للوقت. إن الأشخاص أنفسهم الذين أثير اهتمامهم ـ النقاد، والمحررون، والناشرون ـ هم الأقل تأثّراً بصرخاتي الحماسية. صرتُ أعتقد، في الواقع، أن تزكيتي كافية وحدها لجعل المحررين والناشرين يفقدون اهتمامهم بالكتاب. إن أي كتاب أرعاه أو أكتب له مقدمة أو أكتب عنه عرضاً، يصبح على ما يبدو مقدراً عليه الإخفاق(7). أعتقد أنه ربما هناك قانون عميق وعادل يكمن في الموقف. وبقدر ما أستطيع التعبير عن الأمر، إن القانون هو هكذا: «لا تعبثْ بقدر آخر، حتى ولو لم يكن ذلك الآخر سوى كتاب». وصرتُ أفهم أكثر ما الذي جعلني أعمل على هذه الدوافع المتهورة. إنه ـ بصورة محزنة بما يكفي ـ حقيقة أنني أتماهى مع المؤلف الفقير الذي أحاول مساعدته. (إن بعض هؤلاء المؤلفين ـ كي أكشف المظهر السخيف للموقف ـ ماتوا منذ وقت طويل. إنهم هم الذين يساعدونني، ولستُ أنا الذي أساعدهم!) وبالطبع، دوماً أعبّر عن الأمر لنفسي بهذه الطريقة: «كم هو مؤسف أن فلاناً لم يقرأ هذا الكتاب! أية متعة سيحصل عليها لو قرأه! أي غذاء». لا أتوقّف أبداً عن التفكير بأن الكتب التي يعثر عليها الآخرون بطريقتهم الخاصة تخدم جيداً بصورة مساوية.
وبسبب حماستي الزائدة من أجل كتب كهذه مثل الجماعة المطلقة، بحث، الفتى الأزرق، مقحم بين السطور لكابيزا دي باكا، يوميات أناييس نِن (الموجودة فقط كمخطوط)، وكتب أخرى، كتب أخرى كثيرة، بدأتُ أعذّب قبيلة المحررين والناشرين الفاسدة والزئبقية التي تملي على العالم ما يجب أن يقرأه أو لا يقرأه. وقد كتبتُ دعماً لكاتبين الرسائل الأكثر حماسة وإلحاحاً التي يمكن تصوّرها. لا يمكن أن يكون طالب مدرسة أكثر حماسة وسذاجة مني. ولدى كتابة إحدى هذه الرسائل أتذكر أنني ذرفتُ الدموع. كانت موجّهة إلى ناشر طبعة كتاب جيب مشهورة. هل تفترضون أن ذلك الشخص تأثّر من عاطفتي غير المقيّدة؟ استغرق الأمر ستة أشهر كي يجيب بطريقة باردة منافقة يستخدمها الناشرون في غالب الأحيان، وهي أنهم (دوماً الخيول السوداء) استنتجوا، بأسف شديد (المعزوفة القديمة نفسها) أن الكاتب الذي رشّحتهُ غير مناسب لقائمتهم. وذكروا بلا مسوّغ المبيعات الممتازة التي حقّقها هوميروس (الذي مات منذ وقت طويل) ووليم فوكنر، اللذان اختاروا طباعة أعمالهما. كان المعنى الضمني: اعثرْ لنا على كتّاب كهؤلاء وسنقفز إلى الطعم! ورغم أن هذا يبدو رائعاً إلا أنه لم يكن الحقيقة. هذه هي الطريقة التي يفكّر بها المحرّرون.
على أي حال، إن رذيلتي هذه غير مؤذية بالمقارنة مع رذائل المتعصبين السياسيين والدجّالين العسكريين والمناضلين الفاسدين وأنماط أخرى مقيتة. وحين أذيع للعالم إعجابي وتأثري، وامتناني واحترامي، لكاتبين فرنسيين حيّين ـ بليس سندرار وجان جيونو ـ أفشل في فهم أنني أسبب أي أذى حقيقي. يمكن أن أكون مذنباً بالطيش، يمكن أن أُعدَّ مخبولاً وساذجاً، يمكن أن أُنتقد بإنصاف أو بظلم من أجل ذوقي، أو الافتقار للذوق؛ يمكن أن أجعل نفسي «رجل دعاية»، ولكن كيف أؤذي أي شخص؟ لم أعد شاباً. أنا في الثامنة والخمسين من العمر. اسميلوسالافان. وبدلاً من أصبح غير مهيّم بالكتب، أجد أن العكس هو الصحيح. ربما تحتوي مقولاتي المتهوّرة على عنصر اللاحساسية. ولكنني لم أكن أبداً من يُدعى بـ «المحتشم» أو «الحسّاس». إن لمستي فظة، صادقة ومخلصة، على أي حال. وهكذا، إذا كنتُ مذنباً، ألتمس الصفح مسبقاً من صديقيَّ جيونو وسندرار. أتوسّل إليهما أن يتبرأا مني لو أنني سببتُ لهما السخرية. ولكنني لن أسحب كلماتي. إن مجرى الصفحات السابقة، مجرى حياتي كلّه، يقودني، بالفعل، إلى هذا الإعلان للحبّ والإعجاب.
هوامش
1-يجبألايُستنتج من هذا أنني صرتُ ضد شروود أندرسون، الذي عنى كثيراً بالنسبة إلي. ما أزال أملك إعجاباً كبيراً بأعماله التالية: واينسبرغ، أوهايو، وزيجات كثيرة.
2-لسبب غامض ما أنوي أن أقرأ مثلاً رواية كادحو البحر، التي افتقدتها حين كنتُ ألتهم هوغو.
3-لدى قراءة ذلك الكتاب الممتع والخيالي بشكل فريد، أرض تحت إنكلترا، والذي ألّفه جوزف أونيل ـ منذ بضع سنوات فحسب ـ فإن المشاعر القديمة عن إنكلترا استيقظت ثانية. ولكن مؤلف هذا الكتاب أيرلندي، وإنه لكتاب غير عادي.
4-إن تلك العمة الجيدة، شقيقة والدي، قدّمتْ لي أيضاً، المستبدّ الجالس إلى مائدة الفطور، مجموعة كتب لصامويل سمايلز، وكتاب كنكر بوكر تاريخ نيويورك.
5-كان اسم الشخص الذي أرسلتها إليه هو فرانسيس كي. هاكيت، ولن أنسى ما حييت جوابه المحتشم والمشجع، ليباركه الله!
6-لاحظتُ أنه حتى ماري بيسانت ذكرت هذه المقالة في كتابها المسيحية الباطنية.
7-إن الاستثناء هو في الحقيقة كتاب حقّاً البلوز، والذي يحمل في طبعته الفرنسية رسالة في شكل مقدمة، عليها توقيعي. قيل لي إن هذا الكتاب يبيع كالكعك الساخن. على أي حال، لا يعود الفضل إلىَّ في هذا ؛ كان سيبيع هكذا دون مقدمتي.
Comments