إخراج الأرنب من قبعة الساحر الإسلاموي: قراءة في كتاب “أسئلة الهوية والتسامح وثقافة الحوار”
Posted on February 06, 2016
by
Tadween Editors
| 0 comments
لؤي ماجد سلمان
في كتاب صدر حديثاً في إطار منشورات مجلة دبي الثقافية، تحت عنوان “أسئلة الهوية والتسامح وثقافة الحوار”، للباحث والدكتور يوسف الحسن، اعتبر الكاتب أن الأزمنة التي كان فيها الحوار "مجرد زينة" ولّتْ، ولا بديل عن الحوار إلا المشروع الإقصائي للآخر، وأننا في هذا الوقت بأمس الحاجة لمؤسسات متخصصة بالحوار، يكون لديها برامج تفاعلية وقدرة على التبادل بين الداخل والخارج لتعميق عوامل المعرفة بالآخر، وإزالة سوء الفهم والصور النمطية لبناء الثقة المتبادلة، وفتح العقول على التنوع ومفاهيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، بعيداً عن المفاهيم القديمة والمقولات التي تدعي أن النصرانية هي ديانة الرجل الأبيض أو ديانة الشمال الغني.
علينا إذاً التسليم بالتنوع والاعتراف بالآخر المختلف عنا ديناً أو لغة أو ثقافة أو هوية، ولنا الحق بالاختلاف، إذ إن العيش المشترك لا يستقيم بغير احترام المشاعر والرموز والمقدسات الخاصة بالآخر، ولا يلغي الاختلاف الديني حقيقة الانتماء الواحد للحضارة، ذلك أن بناة الحضارة العربية الإسلامية هم مسلمون ومسيحيون شيدوها معاً، في مختلف الميادين والعلوم واللغات.
أشار المؤلف إلى ثلاثة مخاطر تواجه المسيحيين العرب، وهي الهجرة والتهجير القسري (القدس مثالاً) ومخاطر الاستئصال والمواطنة الناقصة، الأمر الذي يؤدي إلى تفريغ الشرق من مسيحييه العرب كهجرة المسيحيين العراقيين، ويمكن أن أضيف تهجير المسيحيين السوريين برعاية داعمي التيارات الدينية المتشددة التي اختطفت الربيع العربي.
يقول الحسن: "لقد أخفقنا في بناء مجتمع المواطنين المتساوين، وتقاعسنا عن القيام بواجباتنا كضامنين لتماسك النسيج الوطني لمجتمعاتنا، بعضنا روج لخطابات الغلو الإقصائية، وبعضنا استجاب للتحريض الطائفي، وتراجعت في مجتمعاتنا قيم وثقافة الحوار، واحترام التنوع والاختلاف، كما تراجعت قيم التسامح”، ليؤكد لنا أن الاستسلام للخطابات والممارسات التحايلية التي اعتدنا على إنتاجها في المناسبات والأزمات مثل رفع شعار الوحدة الوطنية، و تبويس اللحى بين الرهبان وشيوخ ورموز الدين، لا يفيد في معالجة جذور الفتنة، ومن غير المجدي مواصلة مؤسسات الحكم لاستخدام الهيئات الدينية والطوائف الدينية في لعبة التوازنات السياسية، علماً أن تجارب الشعوب أثبتت أن المسكنات وترحيل ملفات الفتنة وتأجليها أو الاستهانة بها، هي بمثابة قنابل قابلة للانفجار في أية لحظة، فلا يكفي التبرؤ من الفتنة وتسيير التظاهرات والاحتفالات على أهميتها العفوية، نعم هناك حاجة وطنية وقومية وعالمية للبحث عن جذر المشكلة والحل الناجع قبل فوات الأوان لكن لا بد من وضع يدنا على سبب المشكلة وسبب الاحتقان والتوتر. هنا لا أعتقد أن الدكتور الحسن أصاب لأن التظاهرات والاحتفالات التي يتم "تسييرها" من قبل الحكومات ليست عفوية بأي شكل من الأشكال.
التسامح قيمة ثقافية
استعرض الكاتب مفهوم التسامح حسب الإسلام والقرآن الكريم، وما نشرته منظمة اليونسكو عام 1995ً:، مستشهدا بقول الإمام الشافعي "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" مضيئاً على الأدوار الشرسة للكنيسة، حسب رأيه، خلال العصور الوسطى ضد معارضيها من مسيحيين ومسلمين ويهود، وكيف سيق المسلمون في الأندلس إلى محاكم التفتيش في نهاية القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، معتبراً أن مصطلح "التسامح" الحديث عرفه الغرب في القرن السادس عشر لحل مشكلة الصراع داخل الكنيسة وبروز البروتستانتية المنشقة عن الكاثوليكية.
يؤكد المؤلف أنه ما زال هناك خلط وتشويش، وإدراك ضبابي لمفهوم التسامح في أذهان الكثير من الناس، إن على مستوى النخب، أو العامة، وذلك يفسر جزءاً من الإشكالية والاضطراب، أو الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية في الوقت الراهن، جازماً بغياب التسامح والحوار واحترام الاختلاف على مدى العقود الماضية، بينما حضر التعصب والتهميش والإقصاء والانغلاق والتكفير والغلاة والطغاة والبغاة.
وطالب المؤلف بتعليم الأجيال القادمة المعنى الحقيقي للتسامح، وهو الاعتراف المتبادل بالحق في الاختلاف والتعامل مع قواعده وقيمه، دون تهاون إزاء العدالة وحقوق الإنسان، والتسليم بالتنوع والاعتراف بالآخر المختلف عنا دينا أو سياسة أو ثقافة أو لغة أو هوية.
سؤال التفكير سيرة التطرف
يقول الباحث: داعش ليست نبتاً شيطانياً أو تنظيماً مستولداً بالأنابيب بل هو تنظيم فكر وأدبيات وفتاوى معلولة، كما أنه ليس لقيطاً منقطع الجذور عما جرى بالأمس القريب والبعيد، والتاريخ العربي مثل تواريخ الأمم، لم يكن يوتيوبيا محررة من الغلو والشرور والوحشية، مؤكداً أن ما يحدث الآن سبق وأن حدث مع تغير الأساليب والأدوات والحاضنات، فقد عرفته أوروبا في النصف الأول من القرن السابع عشر، في حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت.
كما قدم في مطلع أربعينيات القرن الماضي أبو الأعلى المودودي في الهند التنظير الأساس للإسلام السياسي من خلال مفهوم “الحاكمية"، واعتبار المجتمعات القائمة في العالم مجتمعات جاهلية. وفي عام 1958 عثر فتى مصري "نبيل البرعي" على كتاب يضم فتاوى ابن تيمية الجهادية التي آمن بها، وشكل أول مجموعة جهادية مصرية وعربية في القرن العشرين، بعدها بثماني سنوات انضم أيمن الظواهري وآخرون لهذه المجموعة.
وجاء كتاب سيد قطب"معالم في الطريق" ليشكل مرجعية فكرية إضافية في أصل الفكر التكفيري، إذ رأى أن كل المجتمعات قد أصبحت جاهلية ليس فقط بالسلوك، بل في "جاهلية العقيدة" متهماً معارضيه من علماء المسلمين بالسذاجة والغفلة والبله.
وظهر في مصر أيضاً عام 1977 تنظيم "التكفير والهجرة" الذي قاده شكري مصطفى، وخطف وقتل وزير الأوقاف المصري. كما نشأت قبله مجموعة "الجهاد الإسلامي" بقيادة عبود الزمر ومحمد عبد السلام فرج واغتالت الرئيس أنور السادات، ومجموعة سلفية أخرى عام 1974 قادها صالح سرية للهجوم على الكلية الفنية العسكرية المصرية، غير الحركات التي قامت في سورية منذ عام 1979 وقامت بارتكاب عدة مجازر من بينها مجزرة مدرسة المدفعية في مدينة حلب بعد أن تم فرز الطلاب وفقا لطائفتهم.
وفي الجزيرة العربية قاد جهيمان سيف العتيبي مئات المسلحين واعتصم في المسجد الحرام واستمر القتال ثلاثة أسابيع. أطلق جهيمان على مجموعته "الدعوة المحتسبة" وأصدر مجموعة من الرسائل الدينية تحدث فيها عن الخليفة الذي يفرض نفسه على الناس ثم يبايعونه.
تخضع جميع التنظيمات الإرهابية لمبدأ "إدارة الفوضى المتوحشة”، المشروع الفكري الذي ألفه المصري "أبو بكر ناجي”، ونشره عبر شبكة الانترنت، وأصدره مركز الدراسات والبحوث الإسلامية.
هناك مجموعات كثيرة أخرى تأسست على الفكر التكفيري وعلى مفهوم "أن كل ما حولنا جاهلية”، وأن "جنسية المسلم هي عقيدته”في أفغانستان وكردستان، وفي المشرق والمغرب والجزيرة العربية والساحل الإفريقي، ومن أبرز قياداتها أبو مصعب الزرقاوي، فاتح كركار، وتطورت لتصبح "القاعدة في بلاد الرافدين" وانحصر "جهادها" في العراق وسورية تحت إمرة "أبو بكر البغدادي".
إن العنف وبكل ما فيه ينضوي تحت هذه المفردة من معاني" غزو، فتح، نفي، سبايا، تكفير، قتل”، وينتشر عبر الحدود مستقطباً أجيالاً شابة برعاية وتشجيع وحضانة سياسيين وإسلاميين يرفضون إدانة داعش حتى لا يستفيد من هذه الإدانة خصم سياسي، وهناك حروب تعلن على داعش وتنسى جبهة النصرة، حروب كلامية لا واقعية، والإرهاب يتناسل ويتمدد ليؤكد لنا الكاتب "أنها معركة ليس معروفا مداها الزمني، ولا مآلها، الحرب وحدها لا تنهي الداعشية ولا الجهادية المعولمة. سيتفرق أتباعها في جنبات الأرض بما يملكونه من جهالة وقسوة".
إنها ثقافة التكفير التي تسربت في الربع الأخير من القرن العشرين إلى بعض هيئات الأزهر، وبسببها قام علماء بمهاجمة نجيب محفوظ بتهمة الإلحاد، وكفّروا نصر حامد أبو زيد، وطالبوا بتطليقه من زوجته، وحكم علماء آخرون على الكاتب السعودي تركي الحمد، وقبلها مارس النميري في السودان ما مارسته محاكم التفتيش الأسبانية، حينما اتهم الشيخ محمود محمد طه بالكفر والردة وتم شنقه بدعم من السياسي وعالم الدين والقانون حسن الترابي. والأمثلة كثيرة على أدباء وشعراء وكتاب اتهموا بالكفر وأخرجوهم من الإسلام.
التاريخ القديم
داحس حصان قيس بن زهير من قبيلة عبس، والغبراء فرسا لرجل اسمه حمل بن بدر من قبيلة ذبيان، القبيلتان كانتا أبناء عمومة. اتفق قيس وحمل على رهان قدره مئة من الإبل لمن يسبق في السباق. بسبب هذا الرهان على الإبل استمرت الحرب أربعين عاماً. أما الحرب بين الدروز والموارنة في جبل لبنان عام 1860 فسببها اصطدام دابة لأحد المزارعين الموارنة بدابة لدرزي، اشتبك من خلفها الرجال بالسلاح الأبيض وامتد القتال إلى أنصار الطرفين لتشعل حربا حصدت حياة البشر من أجل نصر كرامة دابة.
يخبرنا التاريخ أيضاً أن زوجا من البغال رسما الحدود بين الجزائر والمغرب، فبعد حرب مؤسفة بين بلدين عربيين اتفق الشقيقان على رسم حدود بينهما من خلال تكليف بغلين بذلك بحيث ينطلق الأول من المغرب والثاني من الجزائر، إلى أن يلتقيا في نقطة معينة، اعتبرت نقطة الحدود بين البلدين. وأطلق على هذه النقطة الحدودية اسم"جوج بغال”.
الهوية
طرح الدكتور يوسف الحسن غياب عنصر الأمن الثقافي الذي لا يقل خطورة وأهمية عن الأمن الإنساني الذي يتضمن الأمن الغذائي والصحي والبيئي والمائي، ومبدأ المواطنة وحماية الفئات الضعيفة، ومعالجة مواطن الضعف الاقتصادي من جوع وبطالة وفقر، وحماية الوطن من التدخلات الخارجية والنزعات الداخلية التي تزيد المعاناة الإنسانية وتقوي نزعات الغلو والتطرف، وتطلق الهويات الفئوية والمذهبية الصغرى، معتبراً أنه الوحيد الذي يحمي الإنسان من الارتهان والتبعية، خاصة حينما يكتسب مفهوما بنائياً وتراكمياً. فالهوية الثقافية، حسب الكاتب، صلة أساسية بنمط الحياة سواء بعملية نجاح أو فشل الخيارات السياسية والاقتصادية في المجتمع، أو بأنماط العيش والسلوك والعادات والفكر السائد واللغة، واعتبر أن فشل الدول العربية في تأسيس ورعاية مشروعها الثقافي الوطني الجامع سمح بنمو مؤسسات وتركيبات ثقافية تقليدية ذات طابع مذهبي أو اثني أو عشائري حيث تقدمت لملء الفراغ من خلال هويات مصنعة تفتيتية، تشكل خطراً على تماسك المجتمعات.
زعم أن الأجيال الجديدة "أجيال مغربة" عن لغتها القومية، فالطلبة العرب يتحدثون باللغة الانكليزية لأنها وحسب رأيهم لغة التفكير والأداة الأفضل للتعبير عن أرائهم، حتى أن بعضهم يخجل من التحدث باللغة العربية اللغة الأم. منهم من يعتبر نفسه ضحية الآباء الذين دفعوا بأولادهم إلى المدارس الأجنبية والجامعات التي لا تشترط معرفة اللغة الأم، أو تعترف بها أساسا، متسائلاً عن السبب الذي أدى إلى هذا الاستخفاف باللغة العربية رغم أنها تحظى بقداسة تحسدها عليها لغات حية أخرى، وعن الأسباب التي نزعت نبض اللغة –الهوية معتبراً أن فقدان اللغة الأم هو هوية مقضومة تحرم الفرد من روافد تاريخه وثقافته وحضارته، وما اتجاهه نحو الراهن والغالب والسائد إلا افتتاناً بالمعلب ومجرد إشباع كاذب يصلح للحديث في الأسواق والسياحة لكنه لا يصلح للثقافة وعوالمها الأدبية والحضارية.
لكن حين السؤال عن الهوية الوطنية لا بد من تجاوز الحالة الوجدانية أو العاطفية التي تطرح هذا الاستفهام، إلى حالة الوعي العقلي بالذات الذي يتطلب منا مقاربات عميقة لها أبعادها وحقولها المعرفية ومجالاتها التاريخية ومضامينها الفكرية والثقافية، وموروثاتها المتنوعة، هي حاجة ماسة استراتيجية لإحداث توازن داخل الوعي الفردي والجمعي من شأنه تعزيز الدفاعات الذاتية، واستجاباتها الفاعلة للتعامل مع متغيرات الحداثة والنماء السريع في زمن العولمة.
حاول الكاتب التركيز على مشروع وطني لكتابة تاريخ الإمارات، محملاً الجميع مسؤولية قلة إدراك جيل الشباب المولود خلال العقود الأربعة الماضية لتاريخ وطنهم ما قبل النفط وما قبل قيام الاتحاد عام 1971ً، مؤكدا على فقدان المشروع والسياق التاريخي العام والرواية المتعمقة والرؤية النقدية والفلسفية الشاملة لهذا التاريخ الذي يجب تدوينه على الأقل من أوائل القرن السادس عشر، حين وطئت أقدام البرتغاليين أول مدينة خليجية (قلهات في عمان) مروراً بالقرون الخمسة التالية، لأن تاريخ أي منطقة لا ينفصل عن هويتها المعاصرة، ومن دون معرفة علمية لهذا التاريخ لن تتمكن الأجيال من تعزيز بنية الهوية، غير أن كتابة تاريخ الإمارات في سياق مترابط وشمولي هو الاسم الحركي لكينونة الهوية، وما تستحقه كتابة هذا التاريخ أكثر بأضعاف من المشروعات الفضائية التجارية المخصصة للترفيه السطحي.
إن سؤال الهوية الوطنية سؤال مشروع يطرح في كل بقاع العالم، فقد طُرح في فرنسا حين تخوف زعماؤها من مدى قدرة الهوية الفرنسية على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي. عارضوا اتفاقيات الجات حماية للهوية الثقافية الفرنسية. ويواجه أكثر من نصف سكان ماليزيا معضلة الهوية الوطنية ثقافياً وعرقياً، والماليزي المسلم يؤكد دائماً حاجته للهوية (الملايانية) وعملياً نجده يجاهر بها من خلال الزي والمدارس واللغة الأصلية وذلك لمواجهة الثقافات الأخرى الهندوسية والصينية.
سؤال الثقافة
شن صاحب "أوراق من واشنطن" هجوماً على المثقف العربي الذي خسر قضيته الثقافية المجتمعية الإبداعية، فأخرج الأرنب من قبعة الساحر "الإسلاموي" من خلال وقوفه كمثقف مع "هويات صغرى" بعد أن حاربها زمنا طويلاً. وليست المسألة محصورة في دول وإنما عامة، وتتجلى في ثقافة مأزومة وتعليم معاق، وفي مثقف بلا جذرية ولا وضوح ولا عمق شعبي، في أحسن حالاته يقف في الساحات الرمادية.
ويرى المؤلف أن مثقف اليسار العربي كان منظراً للتطبيع مع إسرائيل، وبعض مثقفيه انتهوا في أحضان الفكر السلفي والإسلام الحركي، فسيد قطب كان ملحدا في بداية حياته الثقافية وتأخر التزامه الإسلامي، وحين دخل الإسلام تحول إلى تكفيري بامتياز وإمام للتطرف العنيف، ومنهم من عجز عن الفصل بين الدين والتراث.
طالب المثقفين بجردة حساب، سائلاً الليبرالي "الاقتصادي" عما قدمه من إبداعات لكبح جماح الليبرالية الاقتصادية العربية أو لتطوير نموذج دولة الرعاية الاجتماعي ؟ وسأل المثقف القومي عن ما قدمه من تجديد حضاري وفكر قومي تنويري وحدوي وإنساني؟ وماذا قدم المثقف من فكر إبداعي لتطوير التنمية السياسية للأجيال القادمة معتبراً أن إطلاق اسم "العربي الجديد" على صحافة وفضائيات "إسلاموية" حزبية لا علاقة لها بالعربي المذبوح لم تتجاوز لعبة من ألعاب السياسة الانتهازية، مشيراً أن في الذات المثقفة العربية شيئاً من "الحالة السلفية" بتشعباتها وتياراتها المختلفة. وبقدر ما انقلب المشهد السلفي مؤخرا رأسا على عقب، إثر تداعيات ما سُمي بالربيع العربي، فإن المثقف العربي بتلاوينه المتعددة وقف حيراناً ومذهولاً، وظف الإيدولوجيا للتغطية على جوانب النقص في المعرفة بالواقع العربي وبمتطلبات العصر.
ومثلما تعامل السلف مع الألفاظ أكثر مما تعامل مع المفاهيم، تعامل المثقف مع الشعارات أكثر مما تعامل مع المقاصد والاستقراء والاستشراف، كرس سلطة اللفظ على الفعل وسلطة الشعار على المضمون، وخدم السياسة على الطريقة الميكافيلية.
أخيرا اعتبر أن استمرار إعاقة العمل التنموي الحقيقي في أي مجتمع ناتج عن ثقافة سياسية خالية من الإبداع العلمي وإنتاج المعرفة ومراكمتها ونشرها، حيث أن الثقافة السياسية الناجحة هي الثقافة التي تنتج ألفة بين أفراد المجتمع من ناحية والسلطات الحاكمة من جهات أخرى، و أبرز قيم الثقافة السياسية المنتجة والمؤثرة إيجابياً في المجتمع، قيم الحرية والإقناع مقابل الإكراه والتجاهل، وقيم الثقة المتبادلة مقابل الشك، وقيم المساواة بين الأفراد في الحقوق والالتزامات مقابل التمييز بين الناس وقيم الولاء للمجتمع والمصلحة العامة والمسؤولية العامة مقابل الولاء للقبيلة أو المذهب أو الحزب أو المصلحة الخاصة.
ختم المؤلف بحثه بملاحظات على المنهج المطور في الإمارات لا سيما في التربية الإسلامية التي غيبت أربعة مذاهب إسلامية هي “الجعفرية والظاهرية والأباضية والزيدية" رغم أن مجمع الفقه الإسلامي أقر بوجود ثمانية مذاهب من بينها الأحزاب المشطوبة علماً أن أتباعها مسلمون، كما انتقد تغييب سير العلماء المبدعين من المناهج، وكيف تحدث المنهج عن الوحدة الإسلامية والأمة الإسلامية ولم يتحدث عن الأمة العربية والوحدة العربية.
حاول الكاتب في بحثه التركيز على كتابة تاريخ الإمارات والهوية وتطوير مشروع ثقافي فاعل وعصري يسهم بتشكيل شخصية المواطن في المستقبل ويحفز الأجيال الناشئة على احتلال رؤية عقلية نقدية إبداعية وإنسانية تتفاعل مع المتغيرات والتحولات في كل البنى الاجتماعية والمعرفية وغيرها، محاولاً الهروب من التهمة النفطية وإثبات أن التاريخ الإماراتي ليس بدايته مع اكتشاف النفط وأن هناك تاريخاً مغيباً عن الأجيال الجديدة، محاولاً التركيز على رأس المال الاجتماعي الذي يعتمد على التفاعلات الاجتماعية بين الناس مثل الثقافة والعمل الجماعي والترابط المدني بعيداً عن الإمكانيات المالية والتفاعلات السياسية .
لا أعتقد أن ما قدمه الدكتور يوسف الحسن يوصل إلى صيغ تسامح وثقافة حوار حقيقية، ولا يندرج إلا تحت المواضيع التي رفضها في كتابه، واعتباره الحوار أحد مقاصد الشرع الكبرى في هذا الكون والمعاملة بالتي هي أحسن ما هو إلا إعطاء صبغة إسلامية للحوار والتسامح، أو أسلمته حتى يقبله الإسلام أولا.
غير أن ما طرحه حول مشكلة الأقباط في مصر وهي حالة أشبه برمي الكرة في حضن الآخر، فما استعان به من مواعظ كأن لا يجوز أن يساء إلى الإنسان بسبب عقيدته أو دينه، وضرورة الاحترام المتبادل والاختلاف، أو الاستشهاد في أكثر من مكان بفضل الإسلام كتبرع حاكم الإمارات الشيخ زايد لترميم كنيسة المهد في بيت لحم عام 2002، أو نص العهد النبوي الذي قدمه النبي محمد إلى نصارى نجران الذي يحض "على حماية النصارى وكنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، وترميم بيعهم وصوامعهم، و مصالح أمورهم ودينهم، وحراسة دينهم وملتهم أينما كانوا، ولا تغيير لأسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته، ولا هدم بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين، ولا يحمل الرهبان والأساقفة شيئا من الجزية أو الخراج، ولا يجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام" النص الخالد حسب المؤلف وينطبق على النصارى عموماً وليس على نصارى نجران حصراً، إذا لماذا لا ينطبق هذا النص على باقي الملل والطوائف وينطبق على النصارى فقط؟ ولماذا نحتاج أن نعطي النصارى أو أي فريق صكوك براءة وتسامح وأمان من الإسلام، في الوقت الذي ندعي أننا نسعى إلى ثقافة التسامح ونبذ كل ما هو طائفي؟ ولماذا لا نعترف بتحويل الكنائس إلى جوامع؟ والأخطاء التي ارتكبت بحق الشعوب باسم الإسلام، كحملة التطهير الإثني التي قام بها الأتراك ضد الأرمن على سبيل المثال لا الحصر؟
استحضر أيضا كنيسة القيامة"حيث صلى عمر بن الخطاب بجوارها، وما زال المسلمون يقومون بمهمة فتحها وإغلاقها وتسهيل أمور العبادة فيه لكل الطوائف المسيحية”، هنا لا بد من توجيه سؤال هام للمؤلف الذي يعتبر هذا التصرف من قبل المسلمين نوعاً من التسامح: لماذا يكون المسلمون هم من يقومون على خدمة وحراسة الكنيسة؟ هل هم أحرص من الشعب المسيحي على دور عبادته؟ وهل يكفي أن يصلي رجل مسيحي جانب حرم إسلامي ليتولى النصارى الإشراف على هذا الحرم؟ وأجزم أنه في المرتين اللتين سلمت مفاتيح الكنيسة لأشخاص مسلمين سواء في عهد الصحابي عمر بن الخطاب، أو في عهد صلاح الدين الأيوبي، كان بقوة السلاح لا التآخي المزعوم، ولا أعتقد أن أحداً يشعر بالغبطة والتسامح لأن مفتاح بيته مع جاره.
ربما كان البحث في المجتمعات الخليجية أكثر خصوصية من المجتمعات العربية والسبب أن دولة الإمارات تصلح نموذجاً للحرية الدينية وتقبل الآخر، ولا يمكن إنكار دور العبادة لمختلف الطوائف ومنها معابد السيخ والبوذيين، وأماكن مخصصة لحرق الموتى الهندوس، لكن أين الفرق الإسلامية من ذلك التسامح؟ إن المشكلة التي غفل عنها الكاتب هي أن الخلاف ليس إسلامياً مسيحياً فقط بل إسلامي إسلامي في الدرجة الأولى، وهو الجرح الذي يرفض الجميع معالجته أو التعرض له.
Comments