هكذا أُفسِدت الجامعة في تونس
بكّار غَريب
لا تستقيم نظرية أنّ الجامعة في تونس شكّلت قوة ضاربة واعية للثورة، من خلال التعبئة المزعومة لطلابها، بفضل تأهيلهم للتحليل النقدي لمجتمعهم. على العكس من ذلك تماماً، لم تعد الجامعة التونسية، ومنذ أعوام التسعينيات، مساحة للنقاش ولتعريف الطلاب بالسياسة والمواطنية. فقد نجح النظام السابق، إلى حدّ بعيد، في إبعاد الكتلة الطلابية عن السياسة. ثم أدى قرار إغراق الجامعة بأكبر عدد ممكن من الطلاب منذ منتصف أعوام التسعينيات، الى إيجاد بطالة مكثفة بين حمَلَة الشهادات العليا.
ثورة حمَلَة الشهادات وبطالتهم
فلنعُد إلى اللحظة الأولى للثورة، التي بدأت مع حرق الشاب محمد بوعزيزي نفسه في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010. كان ذلك الفعل اليائس في أساس حركة انتفاضة واسعة النطاق في سيدي بوزيد، وفي ولاية القصرين المجاورة، تمددت الى كل أنحاء البلاد. وكان للشعارات التي رُفعَت خلالها مغزى اقتصادي واجتماعي واضح، بدلالة الشعار الذي رُدِّد منذ الأيام الأولى في مدن الرقاب ومنزل بوزيان: "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"!
مضمون الشعار يمكِّن من فهم المعنى العميق للثورة التونسية وهوية أبطالها. فدقته السياسية تجعله قادراً، في جملة قصيرة للغاية، على تحديد علّتين اقتصاديّتين واجتماعيتين عانى منهما النظام السابق، والربط بينهما: البطالة المزمنة، والفساد المترافق مع شراسة "العائلات" الحاكمة.
ويسمح ذلك بتعيين هوية المبادرين إلى الحراك الاجتماعي: هؤلاء ليسوا فقراء يطالبون بالحصول على الخبز، إنهم بالأحرى مستبعَدون من النظام، يطالبون بالحق بالعمل وبشروط حياة كريمة. ليسوا أعضاء من البروليتاريا المسحوقة، بل عاطلون عن العمل يبرهنون عن امتلاكهم وعياً سياسياً حادّاً، وهم على الأرجح من متخرّجي الجامعات!
يثير ذلك ضخامة حجم البطالة وتوزّعها عشيّة الثورة. ففي أواخر العام 2010، كان في تونس حوالي 500 ألف عاطل عن العمل، ربعهم تقريباً (160 ألفاً) من حملَة الشهادات العليا! ويوضح التحليل أن البطالة تطال فئة الشباب أكثر من الاكبر سناً، وحملَة الشهادات أكثر ممن لم يتابعوا تحصيلهم العلمي، وسكان المناطق الداخلية أكثر من سكان الساحل. تضرب البطالة 14 في المئة من حملَة الشهادات العليا المقيمين في العاصمة، و17 في المئة من سكان منطقة صفاقس، بينما تصل إلى مستوياتها القياسية في مناطق القيروان وسيدي بوزيد والقصرين وقفصة، مع معدلات تتراوح بين 40 و50 في المئة!
وجود الظلم أم وعيه؟
على ضوء هذه الأرقام، فليس مفاجِئاً أن يكون عقر دار الثورة ولايتي سيدي بوزيد والقصرين، اللتين كانتا تحتضنان وضعية اقتصادية واجتماعية شديدة التوتر، من شأن أي شرارة أن تفجّرها. فجذور أي ثورة ليست مجرّد ملاحظة وجود الظلم، وإنما بالأحرى الشعور بهذا الظلم الناشئ عن الحالة الخاصة. ويظهر هذا الظلم بشكل مزدوج بالنسبة للعاطلين عن العمل من متخرّجي الجامعات: أولاً لأنّ الشهادة لم تتح الحصول على عمل، وتوفير شروط حياة كريمة. ثمّ لأنه في الأوساط الشعبية، فالأشقاء الفاشلون تعليمياً هم، للمفارقة، من ينفق على اخوانهم من حملَة الشهادات الباحثين عن عمل.
الانفكاك عن الاقتصاد
كيف انتقلت تونس، في غضون عشرين عاماً، من غياب البطالة في أوساط حملة الشهادات، إلى مستودع لـ160 ألف عاطل عن العمل من حملة الشهادات العليا، بحسب الأرقام الرسمية؟ كيف انتقلنا من معدل بطالة بين هؤلاء يقلّ عن الواحد في المئة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى نسبة تزيد عن الـ35 في المئة في الألفية الثالثة؟ اسباب عديدة:
1ـ نهاية النظام الانتقائي: حدث تضخيم اصطناعي لمعدلات النجاح في البكالوريا وفي الجامعة معاً، نتيجة تدبير مؤسساتي إرادوي. فعدد حمَلة الشهادات لم ينشأ نتيجة ضغط ديموغرافي، لأنّ دفعة الطلاب المتخرّجين انتقلت من 40 ألفاً في نهاية أعوام الثمانينيات، إلى حوالي 400 ألف بعد 20 عاماً: عشرة أضعاف! هذا الانفجار في الأرقام تمَّ بفعل إغراق الجامعة بأكبر عدد ممكن من الطلاب، وطبق بفضل وسيلتين: تيسير الطريق المؤدي إلى الجامعة، أي مرحلة البكالوريا، والتضخيم المصطنع لمعدلات النجاح في السنوات الجامعية. احتضنت أعوام التسعينيات نقطة تحوّل رئيسية في السياسة التربوية والجامعية للبلاد، من خلال إرساء نظام انتقاء رخو جداً للوصول إلى الجامعة، قام على احتساب نسبة 25 في المئة من المعدل السنوي للسنة الدراسية الثانوية النهائية، في المعدل العام للباكالوريا. 50 في المئة من طلاب الجامعة التونسية اليوم، لما وصلوا إليها لو احتسبت نتائج امتحاناتهم في البكالوريا حصراً!
كان يفترض منطقياً بأن تلفظ الجامعة هؤلاء الطلاب المجرَّدين من الأدوات الفكرية الضرورية لمواصلة الدراسة العليا، أي أن يغادروها بعدما يصطدموا بحاجز الامتحانات السنوية. لكنّ ذلك لم يحصل! إذ إنّ وزارة التعليم العالي طبّقت سياسة تضخيم اصطناعية لمعدّلات النجاح في الجامعات، من خلال استخدام سياسة الجزرة (مكافأة المؤسسات الجامعية التي تحصد أعلى معدلات نجاح)، والعصا (الضغوط على المدرِّسين المرتكبين لذنب إعطاء علامات سيئة جداً).
ما حصل هو بكل بساطة الانتقال التدريجي والخفي من نظام تعليمي جيّد لكنه انتقائي، إلى نظام ينتج وفرة من حملة الشهادات غير المؤهلين. فبحجة ارساء الديموقراطية في الجامعة، صُنع في الواقع ترديها وانحطاط مستواها.
ـ أي منطق يكمن خلف إغراق الجامعة بالطلاب؟ ما هي الدوافع الاقتصادية والسياسية العميقة لمثل هذا الخيار الذي ثبت في النهاية أنه كان انتحارياً.
في الواقع، لم يكن إغراق الجامعة بالنسبة للسلطة السياسية خياراً اضطرارياً، أي تكيُّفاً مثلاً مع ضغوط آتية من التعليم الثانوي، بل جاء كتعبير واضح عن رغبة سياسية. أرادت السلطة انتهاج مسار سينيكي يقوم على التعاطي مع الجامعة على اعتبارها مستوعَباً ضخماً مخصَّصاً لاحتضان عشرات آلاف الشباب، بهدف تأخير موعد وقوعهم في البطالة، مع تركهم يعيشون لبضع سنوات في وهْم الحصول على مستقبل مضمون بفضل حصولهم على شهادةٍ جامعية. لكن هذه المقاربة تندرج في خانة المنطق قصير الأمد، كسْباً للوقت! أسوأ من ذلك، فهو يفاقم المشكل. فألِف باء علم النفس يفيد بأنّ آمال حملَة الشهادات بالحصول على عمل، هي أعلى من طموحات مَن لم يحصِّلوا تعليماً، كما أنه في مواجهة البطالة، يصبح إحباطهم وغضبهم أكبر.
وتشير تحليلات أخرى إلى أنّ تضخم عدد الطلاب، وبالتالي عدد حملَة الشهادات، يعود بالأساس إلى التنفيذ الصارم من قبل السلطات التونسية لتوصيات البنك الدولي، التي تسوّق لنظرة اقتصادويّة بحتة ومركنتيلية للتعليم، وتتعاطى بالطريقة نفسها مع الرسوب التعليمي والإقصاء على أنهما خسائر اقتصادية للجماعة، فتدعو لزيادة معدلات النجاح التعليمي وإن بطريقة اصطناعية لو تطلّب الأمر! وليس مفاجئاً أن تكون السلطات التونسية طبّقت هذه التوصيات بحماسة، خصوصاً أنها بذلك كانت تفي بالشرط الذي يسمح لها بالاستفادة من تمويل المؤسسات الدولية.
غير أنّ تضخم عدد الطلاب يمكن أن يؤدي أيضاً دورَين آخرين مناسبَين للنظام السابق. فهو أوّلاً أضفى مصداقية على الخطاب الرسمي الذي كان يتحدّث عن تونس مزدهرة ومنافِسة، ساعية لأن يكون نموّها مستنداً إلى اقتصاد المعرفة. ثمّ إنّ هذه السياسة سمحت أيضاً، وبتكلفة قليلة، بدفع البلاد قُدُماً في التصنيفات العالمية على صعيد "مؤشر التنمية البشرية"، الذي يعتمد في أحد معاييره على فئة الشباب المتعلمين البالغين بين 19 و24 عاماً.
ـ سياسة إغراق خطيرة بالنسبة لنموذج التنمية: هناك معزوفة شهيرة، عزيزة على قلوب أرباب العمل والتكنوقراط، حول "القابلية التوظيفية السيئة" لحملة الشهادات العليا. يستند هذا الخطاب إلى "التكوين الجامعي السيئ" للمتخرّجين، ومضمونه "النظري بدرجة مفرطة"، ويجعل من المتخرّجين "في وضع مختلّ بالنسبة لحاجات الشركات". ومن شأنه أن يعفي المؤسسة التونسية من مسؤولياتها الخاصة عن انفجار ظاهرة بطالة حمَلَة الشهادات، بتجاهله نقاط ضعف المؤسسات الاقتصادية التونسية، بل وبدائيتها.
فمنذ تنفيذ "برنامج الإصلاح الهيكلي" بعد أزمة العام 1986، جرى تبني خيار قيادة القطاع الخاص، وخصوصاً التصديري، للتنمية الاقتصادية. مثل ذلك دخولا "من تحت" في العولمة، من خلال التخصُّص في الصناعة التجميعية الحفيفة لمصلحة شركات كبرى أجنبية. وهي صناعة لا تتطلب سوى معرفة تكنولوجية ضعيفة، وعملاً لا يتطلب مؤهلات كبيرة.
وفاقم المشكل ضعف معدلات التوظيف في القطاع الخاص (الذي لم يصل إلى عتبة 10 في المئة، بينما هو 20 في المئة في القطاع العام). ومع ذلك، فالاعتماد على القطاع الخاص كقاطرة للتنمية أدّى إلى ارتباط ثلاثة أرباع مجموع الوظائف المستحدثة سنوياً به، بينما هو غير القادر على توفير مناصب عليا بشكل كافٍ. ثم إن معظم "المؤسسات الصغيرة والمتوسطة" في تونس، والتي تشكّل 85 في المئة من النسيج الاقتصادي للبلاد، تدار بطريقة تقليدية بدائية.
إلا أنّ بطالة حمَلَة الشهادات لا تنتشر بطريقة محايدة اجتماعياً، لأنها تضرب خصوصاً المناطق والمجموعات السكانية المحرومة. ومن تلك الزاوية، فإنّ الجامعة، التي يفترض بها التخفيف من حدّة التفاوت الاجتماعي والمناطقي، راحت تنتج هذا التفاوت، بل تزيد من حدّته. لقد ضُرب مبدأ "الترقي وفق الجدارة" بالصميم، المأخوذ من مفاهيم البرجوازية الحديثة، والذي تأسس عليه المجتمع التونسي منذ الاستقلال.
انفراط العقد الاجتماعي
قام تأسيس الدولة والمجتمع الجديدان بالضد من الممارسات البدائية المتخلّفة السائدة في مجتمع بطريركي، وبالضدّ أيضاً من القواعد الإقطاعية السائدة في مجتمع تقليدي، والقائمة على منطق إعادة إنتاج النخب الاجتماعية، حيث تتحدّد التراتبية والوجاهة الاجتماعية، بالولادة، ونادراً بالجدارة. غير أنّ النخب الجديدة للدولة، المتحدّرة بغالبيتها الساحقة من أوساط شعبية حقّقت ارتقاءً اجتماعياً بفضل الشهادات التي حصّلتها في المدارس والجامعات الحديثة، كانت بالضرورة ستضع معايير جديدة للهرمية، وآلية جديدة للترقي الاجتماعي، قائمة على الجدارة المرتبطة بالحصول على شهادات مدرسية وجامعية.
يفترض بحامل شهادة جامعية، بغض النظر عن جذوره الاجتماعية أو الجهوية، أن يصبح عضواً في الفئة المهنية ـ الاجتماعية، والإفادة من الامتيازات التي توفرها المناصب العليا. سار هذا النموذج بشكل صحيح طالما استطاع الاقتصاد التونسي خلق عدد من الوظائف العليا من جهة، وطالما تمكّن النظام التعليمي الانتقائي من المحافظة على النُدرة النسبية للشهادات، وبالتالي المحافظة على قيمتها الاجتماعية. لكنّ إغراق الجامعة، مُضافاً إليه قطع صلتها بنموذج التنمية المعتمَد منذ حقبة "برنامج الإصلاح الهيكلي"، أدّيا إلى نهاية الجامعة بطريقة غير مسبوقة ومقلقة، وعقابية بالنسبة للجماعات المحرومة: البطالة المكثفة في أوساط حملَة الشهادات العليا!
وتعني هذه الوضعية الاقتصادية والاجتماعية الجديدة أن الرصيد الثقافي (الشهادة الجامعية)، طالما لم يعد كافياً للحصول على الوظيفة المشتهاة، فيصبح الوصول إليها معتمداً بالضرورة على الرصيد الاجتماعي لعائلة المتخرّج الجامعي (والعلاقات التي تمتلكها). كما يصبح مفهوماً أنّ هذا المنطق الجديد، المعزِّز لوضعية "الورثة الاجتماعيين"، يعيد إحياء آليات اجتماعية على حساب الفئات الأكثر حرماناً اجتماعياً. وفي ذلك انفراط للعقد الاجتماعي الذي أرسى لحمة التونسيين، وخلط بين جميع الفئات الاجتماعية منذ الاستقلال.
**********
أما وقد وصل عدد العاطلين عن العمل من متخرجي الجامعات اليوم إلى مستوى قياسي يقارب الـ 230 ألفاً، فمن الضروري أن نستعد منذ الآن لإصلاح الجامعة التونسية، وأن نتعاطى مع هذه المؤسسة على اعتبار أنها تقع في القلب من نموذج التنمية والعقد الاجتماعي. أولئك الذين حاولوا "إصلاح" الجامعة مع تجاهُل ارتباطها العضوي بالتنمية، وبالدور الرئيسي الذي تؤدّيه في ميكانيزمات إعادة الانتاج الاجتماعي، أو الترقي الاجتماعي، يلعبون بالنار. وقد فهموا في النهاية، على حسابهم، أنه لا يمكن تدمير الجامعة أو التسلي بإفسادها، والإفلات من العقاب...
يُنشر هذا المقال بالتعاون مع السفير العربي
Comments