معارض الكتب العربية وطغيان الاتجاه الواحد
الملاحظ على معرض بيروت للكتاب، وعلى المعارض العربية بشكل عام، هو طغيان الكتاب الديني نشراً وتوزيعاً، والكتاب الديني المطروح على رفوف وطاولات المعارض، ليس هو الكتاب الذي يُعيد قراءة الموروث الديني نقدياً في ضوء تطورات العصر، إنما مجرد تنويع على تصورات ورؤى ما تزال تتكرر على مرّ العقود.
لا تقتصرُ المسألة على المعارض، بل مرتبطة أيضاً بالنمط السائد للثقافة، والذي هو في جوهره نمط ديني، أو إعادة إنتاج تطرفية للدين. ولا يختلف معرض بيروت عن معرض الكويت أو معرض الخرطوم وغيرهم في هذه المسألة، فالكتب تتنقل من معرض إلى معرض، ونسبة غلبة الكتاب الديني والتراثي هي نفسها، ذلك أن السياق الثقافي واحد من المحيط إلى الخليج، ويتسم بتهميش التيارات العلمانية واليسارية والتشكيكية والنقدية والمنادية بحقوق المرأة والديمقراطية، أي الثقافة التي تعلي من قيم الحرية والتعددية في جوّ لا يقوم على تنابذ أو على غلبة أكثرية كتبِ تيار معين على أقلية كتب تيار آخر، أو غلبة منظومة فكرية أو عقائدية على أخرى، أو فرض إيديولوجيا قسرية عبر المدارس والجامعات.
العالم يتطور، يرتاد آفاق المجهول، وتُؤلف وتُنشر الكتب التي تواكب هذا الارتياد، وتتواصل مسيرة الكشف والبحث في الغرب، حيث يتربع الفكر النقدي على العرش ويفكك كل القداسات الوهمية، رغم أن آليات السوق تتحكم بالمشهد، إلى درجة أن هناك من يشكو بأن النقد نفسه تحوّل إلى وثن وبحاجة إلى نقد.
إن غلبة الكتب ذات الطابع الديني والتراثي، وإعادة الإنتاج المتواصلة لهذا الكم الهائل من فكر المنظومة الدينية التراثية، أو للكتب التفسيرية أو القائمة على فكر توفيقي، يثير أسئلةً حول المدارس والجامعات في العالم العربي، وحول طبيعة المناهج، وعدم زرع روح البحث والنقد في الطلاب، بالتالي إن التعليم بعامة راضخ لهذا التوزيع الإيديولوجي المدروس للثقافة المُنتجة في كتب.
وإذا ما ألقيتَ نظرةً على المعارض العربية سترى أن هناك عدداً محدوداً من دور النشر التي لا تنتج الكتب الدينية، بل تتموضع تجارياً عبر نشر الروايات العالمية الفائزة بالجوائز، أو مؤلفات الروائيين والشعراء والباحثين العرب المشهورين جداً، أو كتب فن الطبخ والتبصير، أو كتب الرواية المحلية الرائجة، أو كتب موضة الروحانيات التي تجذب حالياً شريحة لا بأس بها، والمذكرات السياسية أو كتب الرحلات، والروايات البوليسية، لكنك لن ترى داراً للنشر، أو مؤسسة أبحاث أو جامعة مشاركة، تهتم برعاية كتب البحث النقدي، أي الكتب غير المترجمة عن لغات الآخرين، وأعني تلك التي تفكك الواقع العربي وتناقش مشكلاته الحقيقية، ومنها مفهوم التدين وطبيعته في العالم العربي. ولن ترى كتباً مثلاً عن الطائفية، وعن مقاربات فلسفية للإسلام، وإعادة قراءته من وجهة نظر حضارية منفتحة ومتسامحة، وإذا ما رأيت فلن تتعدى هذه الكتب أصابعك العشر. وهنا يحضر سؤال: إذا لم يكن لدينا قراءات معمّقة لنفسيتنا ولمعتقداتنا، وأجسادنا، وموروثاتنا، فما الذي نقرأه؟
لا يعني هذا غياب الباحثين والنقاد لدينا، فالمواهب العربية فرضتْ نفسها عالمياً، وبرعتْ في جميع المجالات، وأكيد أن المشكلة هي مؤسساتية بحته، ذلك أن طبيعة السلطة في العالم العربي قائمة على أعمدة منها الحفاظ على الثقافة السائدة، وبالتالي إن غياب المشروع التنويري، من خلال غياب الفكر النقدي التحليلي، وتوفّر التمويل للكتاب الديني التقليدي والتراثي، المُنتج وفق حاجات وضرورات إيديولوجية وتجارية، ولخدمة بنية قرائية لا تتغير نظرتها إلى العالم، يلعبون دوراً في توضيح سبب الغلبة في معارض الكتب العربية، وهذه ظاهرة بحاجة إلى نقاش موسّع، وإصغاء إلى كل المتابعين لها من كتاب ومحللين وناشرين للوصول إلى فهم أفضل لطبيعة التلقي، وبالتالي لطبيعة الثقافة، عندنا في المنطقة.
Comments