رواية كندا لريتشارد فورد Posted on August 10, 2014 by Tadween Editors | 0 comments كتبت ويلا كاثر مرة أن "الكاتب المبدع يستطيع أن يبذل قصارى جهده في اشتغاله على ما يقع داخل حدود عواطفه الأعمق وضمن نطاق خصائصها فحسب". وبحسب هذا المقياس، وأي مقياس آخر، بذل ريتشارد فورد قصارى جهده في روايته الجديدة "كندا"، الفائقة للعادة، والتي هي روايته الأولى منذ صدور روايته "حقائق الموقف" قبل ست سنوات. وفي هذه الرواية الجديدة يكتب فورد بوضوح ضمن حدود عواطفه الأعمق وفي نطاق خصائصها، من وجهة نظر فتى في الخامسة عشرة تخلى عنه والداه، وهو يفعل ذلك بمستوى من الإتقان اللغوي لا يضاهيه إلا قلة، هذا إذا كان هناك من يضاهيه في الأدب الأميركي. تبدأ رواية "كندا" في ١٩٦٠ في بلدة غريت فولز بمونتانا، وهي بلدة حدودية كتب عنها فورد من قبل في روايته "الحياة البرية" المؤثرة، والتي لم تحصل على حقها من التقدير، الصادرة في ١٩٩٠، والتي تبدأ كالتالي: "في خريف ١٩٦٠، حين كنت في سن السادسة عشرة، وكان أبي عاطلاً عن العمل لبعض الوقت، التقت أمي برجل يُدعى وارن ميلر ووقعت في غرامه". كل ما يتبع ذلك يُروى من وجهة نظر جو برنسون، وهو راو أكبر في السن يعود إلى الماضي، إلى الفتى الذي كانه في سن السادسة عشرة حين فقد التوازن الهش في مركز عائلته. هذا صوت فاتن: جدي دون أن يكون حاقداً، صادق دون أن يكون استعراضياً؛ لماح ومتواضع وحكيم لأنه يثق بالأسئلة أكثر من الأجوبة. ولكن هذا الصوت، رغم نجاحه، يشحب بالمقارنة مع صوت ديل بارسونز، الشخصية المحورية في رواية "كندا"، وهو راو آخر أكبر في السن يعود إلى الماضي حيث ضاعت حياته في غريت فولز، مونتانا، في ١٩٦٠. هنا السطور الافتتاحية: "سأخبركم أولاً عن عملية السطو التي نفّذها والداي، ثم عن الجرائم التي ارتُكبتْ لاحقاً. لكنّ عملية السطو هي الحدث الأكثر أهمية، لأنها وضعت حياتي وحياة أختي في المسارين اللذين سلكتاهما في النهاية. ولن يُفهم أيّ شيء بشكل دقيق دون أن يُروى هذا في البداية". إن الأمر الوحيد الذي يجب فعله هو مواصلة القراءة نظراً للحبكة المشوّقة، ولكن ـ كما هي الحالة غالباً في روايات ريتشارد فورد ـ ما يحدث في الحقيقة في القصة يشعرنا بأنه ثانوي، أو في أحسن الأحوال، مساو للغة نفسها. لكن هذا يمكن أن يسبب مشكلات على يد كاتب أقل موهبة: يشعرك النثر بأنه ممتع، مكتوب لا كي يضيء أية حقائق بل كي يسرّ الكاتب، فتضيع القصة في السيرورة ويُترك القارئ في الخلف. لكن رواية "كندا" مباركةٌ بقوتين جوهريتين في آن واحد معاً: قصة مشوقة تسيّرها شخصيات أصيلة ومحققة بشكل كامل، وأسلوب نثريٌّ منجزٌ ومكتمل بحيث تغرينا كلّ جملة بأن نقرأها مرتين أو ثلاثاً قبل أن ننتقل إلى التالية. تبدأ الرواية بانتقال عائلة بارسونز إلى غريت فولز في ١٩٥٦، لكن المشكلة تبدأ في ربيع ١٩٦٠، حين يُسرّح والد ديل، بيف بارسونز، من سلاح الجو في سن السابعة والثلاثين. يرى بيف غريت فولز "… كمكان اعتقد أنه يستطيع أن ينطلق فيه إلى الأمام، حتى دون حياة اجتماعية. قال إنه كان يأمل أن ينضم إلى الماسونيين". لكنه انضم بدلاً من ذلك إلى خط طويل من الرجال الذين يحاولون عبر العصور اكتشاف إلى أين ينتمون. عمل كتاجر سيارات جديدة، ثم كتاجر سيارات مستعملة، ثم عمل وكيلاً عقارياً يبيع المزارع والأراضي. قال إنه سيبدأ وظيفة جديدة في بيع المزارع والأراضي، و"كان هذا شيئاً أقرّ أنه لا يعرف عنه أيّ شيء ولكنه سجّل كي يدرس هذه المهنة في قبو منظمة الجمعية المسيحية للشبان". في ذلك الوقت ترأس بيف التجارة المحلية في اللحوم المسروقة الأمر الذي قاد في النهاية إلى السطو على مصرف، عرفنا عنه في الفقرة الأولى، وكان هذا حدثاً كارثياً قادنا إلى أعمق في حياة ديل بارسونز: الشقيق التوأم لبيرنير، ابن نيفا كامبر، وهو فتى مهتم بالشطرنج وتربية النحل ويتطلع إلى الأمام كي يبدأ الثانوية في الخريف. لم تكن المجادلات حول نكسون وكينيدي بعيدة، وكان الأمر الحقيقي الوحيد المتواصل هنا هو أن ديل وبيرنير وأمهما لم يشعروا بأنهم ينتمون إلى هذه المدينة. أضف إلى هذا حقيقة أن التوأمين يستطيعان قراءة الطقس العاطفي في منزلهما الصغير: "استطعتُ، أنا وأختي، أن نفهم بسهولة لماذا انجذبت أمي إلى بيف بارسونز: فقد كان ضخم الجثة، بكتفين كاللوح، وثرثاراً، ومسلّياً، يريد إلى الأبد أن يسرّ أي شخص يقع في مداه. ولكن لم نعرف أبداً ما الذي جذبه إليها، فهي صغيرة لا يكاد طولها يبلغ خمسة أقدام، وانطوائية وخجولة، وتشعر بالاغتراب وتميل إلى الفن وجميلة فقط حين تبتسم وذكية فقط حين تشعر بأنها مرتاحة بشكل كامل. يُحْسَب له أنه تجاوز اختلافهما الجسدي مركّزاً على جوهر الأمور الإنسانية، مما أثار إعجابي حتى ولو لم يكن في مقدور أمي أن تلاحظ ذلك". إن صوت ديل هنا ـ لا يطلق أحكاماً، متبصّر ومقتضب وكئيب قليلاً، ولكنه مرتاح مع اللغة التي يستخدمها كي يسبر ذاكرته ـ هو القوة المحورية لهذا الرواية المهمة. إن جملها المصاغة بشكل رائع، وحدها، تشدّك إليها، ولكنها أيضاً تخدم باستمرار قصة عائلة بارسونز: "فالعالم لا يفكر عادة بأنَّ للصوص المصارف أطفالاً، بالرغم من أن كثيرين ينبغي أن يفعلوا هذا. ولكن قصة الأطفال، والتي هي قصتي أنا وأختي، هي لنا كي نفكّر بها مليّاً ونتقاسمها ونحكم عليها فيما نعيشها. بعد سنوات، فيما بعد في الجامعة، قرأتُ أن الناقد العظيم رسكين قال إن التأليف هو المؤالفة بين أشياء متنافرة. مما يعني أن المؤلف هو الذي يحدد ما الذي يتماثل مع ماذا، وما يهم أكثر وما الذي ينبغي أن يُرمى جانباً في اندفاع الحياة السريع إلى الأمام". نحن محظوظون جداً لأن القصة المتذكرة لديل بارسونز مؤلفة، عبر ريتشارد فورد، من قبل ديل نفسه، والذي هو الآن معلّم في الستينيات من عمره. إن المؤلف لا يقدم لنا فحسب جملاً كالدرر مثل "التوتر الأميركي الشمالي من أجل شيء ما آخر"، بل يطلعنا أيضاً على تجربة ديل الفتى وتفاصيلها الملموسة مثل وصفه للكوخ الذي جاء كي يعيش فيه في ساسكاتشيوان، ضيفاً لدى راديكالي معاد للسلطة وكاره للنقابات يدعى آرثر رملنغر: "لم يكن هناك مجال لي تقريباً سوى السرير الحديدي الذي أنام عليه وذلك الذي خُصِّص لبيرنير، وغرفة المطبخ، ذات الأرضية المحفرة المغطاة بالمشمّع ومصباح سقفيّ واحد باهت، وغاز بعينين أسخّن عليه ماء المضخّة الذي تفوح منه رائحة القار من أجل حمامي المسائي". إن غَلْي ديل لماء البئر كي يستحم، وبحثه عن مدرسة، ومحاولته كي يصنع حياة سوية لنفسه في فوضى خطيرة سببها الراشدون، يولّدون الأسى العميق والمتعة في آن واحد معاً في هذه القصة. إن رواية "كندا" حكاية عما يحدث حين نتجاوز خطوطاً معينة ولا نستطيع العودة أبداً. إنها فحْصٌ للقوة العلاجية للذاكرة المصقولة، وعمل أدبيٌّ متقنٌ لأحد أروع كتّابنا الذي هو أحد قمم هذا النوع الأدبي. أندريه دوبوس الثالث روائي وناقد أميركي *نُشرت هذه المقالة لأول مرة في صحيفة النيويورك تايمز بعنوان "يشير شمالاً" وقد اختيرت كمقدمة لرواية كندا التي ستصدر بالعربية قريباً عن دار ورق في دبي، وترجم الرواية إلى العربية أسامة إسبر. Tags: Al-Diwan, literature
Comments